بفضل التحسينات الهائلة التي طرأت حديثا على عالم التكنولوجيا، فإننا نعيش اليوم في عصر من العولمة لم يسبق له مثيل، فالمعرفة والثقافة باتت تنتشر بسرعة البرق بين الشعوب، حتى أن الأمم أضحت تعتمد ماليا وماديا على بعضها البعض بنحو غير مسبوق،
ولكن، رغم كل هذا الترابط والتواصل الذي نعيشه، هناك فرق واضح بين الأمم الي تؤمن شعوبها بمبدأ سيادة القانون وتثق به، وبين الأمم التي لا يعدو هذا المبدأ فيها سوى عنوان على غلاف رواية أو عمل درامي. إذا بقيت هذه الأمم على حالها ولم تشرع بإصلاحات قانونية حقيقية، فإنه لن يكون باستطاعتها أن تكون منافسا مكافئا للأمم الأخرى على الساحة الدولية.
شهدت الفترة الأخيرة اهتماما متزايداً بالحوكمة خاصة مع سعى أغلب دول العالم في رفع معدلات التنمية الاقتصادية، بل أصبحت الحوكمة شرطا أساسياً لتحقيق التنمية بمفهومها المُستدام، كما أن لا يزال دور الاستثمار الأجنبي المُباشر في تمويل عملية التنمية محور اهتمام كثير من الدول العالمية عامة بوضع استراتيجية تنمية اقتصادية مركزية مبنية على عدم التبعية، وذلك عبر استبدال المنتجات المستوردة بالمنتجات المحلية، وفرض التعريفات الجمركية وغير الجمركية للحد من منافسة السلع الأجنبية وتأميم الشركات وتكريس احتكارات الدولة،
لكن وللأسف فقد فشل هذا الخيار الاستراتيجي على جميع الأصعدة، فعدم قدرة الاقتصاد على خلق الثروات من جهة، وقدم المعدات الصناعية الإفريقية من جهة أخرى، يشهدان على فشل هذه الاستراتيجية التي جعلت اقتصاد الدول الإفريقية يزداد اعتمادا على السلع المستوردة، فاستبدال المنتجات المستوردة بالصناعة المحلية باء بفشل ذريع، إذ إنه أدى إلى ارتفاع مهول في فواتير الاستيراد وزيادة العجز في الميزان التجاري وارتفاع الدين العام، فاليوم تضم إفريقيا 14 في المائة من سكان العالم، على الرغم من أنها لا تشكل سوى 2.9 في المائة من الصادرات العالمية.
كما أن سياسة التأميم واحتكار الدولة أدت إلى سوء الإدارة والتبذير وزيادة الدين العام. من المعروف أن العنصر الأساسي للسيادة الاقتصادية للدولة يكمن في الحرية والقدرة على الاختيار. لذا فإن اعتماد مفهوم السيادة المطلقة قد أعطى كثير من الدول الإفريقية الوهم بالحرية، لكنه في الوقت نفسه عرض للخطر قدرتهم على التطور نحو الحكم الذاتي،
لأن هذا المفهوم المطلق للسيادة لم يفشل فقط عمليا، إنما استعمل أيضا كذريعة لتعطيل الإصلاحات. لذا ولغاية سنة 1994، رفضت الجزائر السياسات الداعية إلى التغيير وذلك بحجة الحفاظ على “سيادتها”، فحتى لو كانت توصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي قابلة للنقاش، لا شيء يمنع أصحاب القرار في الجزائر، مثلا، من المباشرة بإصلاحات هيكلية كانت تفرض نفسها. وفي زيمبابوي والكونغو، كما في الجزائر، لم يكتف القادة بوضع البلاد في حالة جمود اقتصادي باسم السيادة، بل سخروا هذه السيادة لخدمة مصالحهم الشخصية.
خير مثال على هذا هي سياسة الرئيس الزائيري موبوتو سنة 1974 التي هدفت إلى إعادة أملاك المقيمين في الخارج إلى أرض الوطن. فتحت غطاء سياسة “إنماء قومية”، انتقلت هذه الأملاك إلى أعضاء الحكومة وحلفائهم. بينما كان القادة الأفارقة يتهمون الغرب بانتهاك سيادة بلادهم، لم يتوانوا عن سرقة أموال المساعدات الأجنبية لصرفها على حاشيتهم، فمعادلة السيادة مقابل الثروات المالية هي من أهم أسباب عدم النمو والجمود المؤسساتي الذي تعيشه الكثير من الدول الإفريقية.
فالمشكلة لا تكمن في الحق بالحفاظ على السيادة، إنما تكمن في الوسائل التي تجعل الحصول على السيادة ممكنا، فالاندماج الاقتصادي لا يؤدي بالضرورة إلى فقدان الاستقلال، بل على العكس، لأن الانفتاح الاقتصادي هو السبيل الوحيد كي تحصل الدول الإفريقية على القوة الاقتصادية اللازمة، التي ستسمح لها باتخاذ قراراتها دون أي ضغوط خارجية، فالصين لم تخسر سيادتها عندما اختارت الانفتاح الاقتصادي، بل على العكس، وبفضل حرية الاستثمار وحرية التبادل وتفعيل المنافسة، استطاعت الصين الحصول على الرساميل والتكنولوجيا اللازمتين لكل تحرر اقتصادي.
لذا فإن الدول الإفريقية ستكون رابحة لا محالة إذا اتبعت هذا النهج، فإذا كان المبتغى هو التمتع بالحكم الذاتي والوصول إلى السيادة الحقيقية، فيجب علينا أن نتعلم أولا كيف نصل إلى مرحلة الفاعلية. مرحلة لا يمكن إدراكها إلا داخل إطار يشجع على التبادل والانفتاح، لأن البلدان والاقتصادات المغلقة و”المحمية” تفتقر إلى الحوافز والمسؤولية الضروريين لتحسين الأداء الاقتصادي، فعلى نقيض الأيديولوجيات السيادية التي يروج لها بعض رجال السياسة الأفارقة، تشكل الإصلاحات الانفتاحية، المتمثلة في: حرية الاستثمار، الإنتاج، الاستهلاك، وحرية التبادل، البوابة إلى الخروج من التبعية الاقتصادية نحو الاستقلال الذاتي والسيادة الحقيقية.
من أجل أن يكون القانون قادرا على الضبط والتنظيم والمحاسبة لا بد من كونه سيدا مستقلا، يعلو ولا يعلى عليه، أو كما يقول مونتسكيو: ” القانون يجب أن يكون مثل الموت الذي لا يستثني أحد. بهذه الحالة. أي، تكريس مبدأ سيادة القانون، يمكننا أن نتصور مجتمعا سياسيا لا مكان فيه للاستبداد، وينتفي فيه الظلم بمعناه الفج، وينحسر فيه الفساد والمحسوبية إلى أدنى المستويات، وإذا علمنا أن سيادة القانون تساعد على التخفيف من وطأة الإكراه، إذ يصبح القانون وسيطا بين الأوامر الصادرة عن الحكومة ومن يمثلونها، وبين الطاعة من قبل المواطنين؛ بمعنى أن الأمر يرتكز على القانون، والطاعة تكون طاعة للقانون. إذا علمنا ذلك، يمكننا أن نتصور منسوبا مرتفعا جدا لكرامة الإنسان.
قد يتبادر للذهن أنه فيما سبق طرح لحل المعضلة السورية، لكن الأمر، في الواقع، على عكس ذلك، فتلك المقدمة ينبثق عنها عشرات الأسئلة كل سؤال منها تشكل الإجابة عنه معضلة بحد ذاتها، ولعل السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن: هل يقبل السوريون بمبدأ سيادة القانون؟ يقول الإعلامي السوري فيصل قاسم في أحد مقالاته: “ذات يوم سألت مسؤولا كبيرا
: لقد جئتم إلى السلطة قبل عقود وأنتم تتوعدون الطبقات الاجتماعية والثقافية القديمة بالويل والثبور وعظائم الأمور، لكنكم تحالفتم معها شيئا فشيئا، لا بل عززتم مواقعها ووظائفها، فرد قائلا: هذا صحيح، ولكن ليس لأننا نريد تكريس وضع قديم، بل لأننا وجدنا أن هناك قطيعا كبيرا من الناس يسيرون خلفها بشكل أعمى، ولا يريد أن يمسها بأي تغيير، فقلنا لأنفسنا: بما أن القطيع لا يريد التغيير، لا بل من الصعب تغييره هو نفسه، فلنسر وراء تلك الطبقات القديمة التي تقود القطيع وتتحكم به طالما أنها تحفظ الاستقرار ولا تهدد النظام السياسي”. في الواقع لن يقبل أصحاب النفوذ الذين اعتادوا أن يتخذوا من مدى مقدرتهم على دوس القانون مقياسا لهيبتهم ونفوذهم أن يصبح القانون في يوم وليلة سيدا يأتمرون بأمره، وهؤلاء رغم أنهم أقلية ظاهريا، ولكن من يتبعونهم ويأتمرون بأمرهم من البسطاء الذين لا يعرفون أين تكمن مصالحهم الحقيقية؛ هم أكثرية، بل أكثرية مطلقة. من هنا، تقود الإجابة عن السؤال السابق إلى الاصطدام بمعضلة اجتماعية بنيوية.
يقصد بالقانون مجموعة القواعد التي تطبق على الأشخاص في علاقاتهم الاجتماعية ويفرض عليهم احترامها ومراعاتها في سلوكهم بغية تحقيق النظام في المجتمع. ومن أجل أن يكون القانون مقبولا ويحظى باحترام الجماعة يجب أن يكون واقعيا وملائما للظروف الاقتصادية والاجتماعية ومتوافقا مع قيم الجماعة ومعتقداتها. وهنا يتبادر للذهن سؤال آخر: أي نوع من القوانين يتوافق مع رؤى السوريين؟ وعن هذا السؤال يمكن أن تنبثق عشرات الأسئلة؛ فهل هو قانون جائر يقيد الحريات، أم هو قانون عصري يصون الحريات؟ ما هي حدود الحريات؟ ما هي طبيعة الأغلبية التي يجب أن توافق على هذا القانون؟ أهي أغلبية عددية، أم هي أغلبية تمثل كافة أطياف الشعب وشرائحه؟ … إلخ. قد لا يخفى على أحد أن الإجابة عن هذا السؤال وما يتفرع عنه ستجعل الباحث يكتشف أنه أمام معضلة ثقافية، فالثقافات الفرعية للشعب السوري تتباين تباينا واضحا، وتتراوح بين أقصى اليمين وأقصى الشمال وما بينهما.
السؤال الثالث الذي يطرح نفسه: مع افتراض أن القضاء حصل على استقلاليته، كيف يمكن أن نضمن أن يكون هذا القضاء نزيها؟ فليس من المعقول أن تُطلب النزاهة ممن مرتبه الشهري لا يغطي مصروفه الشخصي لمنتصف الشهر، كما أنه ليس من المعقول أن تصبح مرتبات السلك القضائي تفوق مرتبات باقي فئات الشعب بأضعاف مضاعفة. أي، ليس من المعقول أن يسخر القسم الأكبر من موارد الدولة للسلطة القضائية في مقابل حرمان قطاعات الدولة الأخرى، على اعتبار أن موارد الدولة السورية لا تكفي لأن تقدم الدعم بسخاء لكل قطاعات الدولة ومؤسساتها، وهنا تبرز المعضلة الاقتصادية التي تطرح الكثير من الأسئلة، من مثل، كيف نطور اقتصادنا؟ كيف نحسّن مستوى دخل الفرد؟ أي أسلوب تنمية نتبع؟ … إلخ.
تحيل المسألة الاقتصادية إلى معضلة لا تقل تعقيدا عن سابقاتها، وهي المعضلة الأيديولوجية، فالنظام السوري كأي نظام مستبد كان قد سعى خلال سنوات حكمه إلى تصنيع مجتمع مغلق؛ مجتمع ينظر بعين الريبة والشك للآخر، بل والعداء المطلق للدول المصدرة للاستثمارات، وهذا يتنافى مع أفكار التنمية الاقتصادية، إذ تشير أغلب الدراسات إلى أن تجارب التنمية الناجحة اعتمدت بشكل كبير على الاستثمارات الوافدة من الخارج.