قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).. (سورة البقرة – الآية 183)، وفي ذلك إشارةٌ إلى أن فريضة الصوم في حد ذاتها لم تكن مستحدثةً بقدوم الإسلام؛ لكنها بدأت منذ أن وجدت الخليقة على وجه الأرض، وهذا لأن في الصيام تكمن ماهية السمو بالروح والارتقاء بها؛ لتستطيع أن تتحكم في غرائز الإنسان وتوجه سلوكه للطريق القويم، وتبعده عن كل المهالك المادية والمعنوية، بل وترقى بالفكر ليصبح منتجًا إيجابيًا قادرًا على العطاء، محبًا لسبل الخير، ساعيًا للإعمار بكل صوره.
والتربية الرمضانية في هذا الشهر الفضيل تؤكد على التمسك بالقيم التي نؤمن بها جميعًا؛ حيث لزامًا علينا أن نجمع بين النظرية المتعمقة في النفوس وتطبيقاتها الحياتية، ويبدو هذا جليًا في سلوكيتنا اليومية وتعاملاتنا التلقائية مع الآخرين في سائر ما نتعرض له من مواقفٍ سواءً ارتبطت بما نؤديه من أعمالٍ، أو ما نباشره في مظاهر المعيشة؛ فإذا ما نطقنا؛ فلا نتحدث إلا صدقًا، وإذا ما قمنا بعملٍ؛ فنؤديه بإتقانٍ، وإذا ما اؤتمنا على أمرٍ؛ فلا نقبل إلا بحفظه وصيانته، وعندما تثار حفيظتنا؛ فنتحلى بالصبر والاحتساب، ولا نخرج عن حالة الاتزان الانفعالي التي تضمن سلامة وحسن التصرف وتجنبنا الوقوع في المحظور.
وندرك أن فرصة التغيير سانحة للمخلصين وعاقدي العزيمة في شهر المغفرة؛ فيستطيع الإنسان منا أن يتخلى عن ممارساتٍ غير محمودةٍ، ويستبدلها بأداءاتٍ طيبةٍ، وهذا في حد ذاته يُدعى رشدٌ وهدايةٌ قائمة على العمل والأخذ بأسباب التغيير للأفضل؛ فمحاولة الفرد الجادة تجاه هجر المعاصي تؤهله إلى الاستعداد التام لأن يستديم ويستقر ويعتاد طريق السلامة وصواب الأمر، دافعًا نفسه بالبعد عن كل ما يحثه بكل ما يهواه من سبل التقصير والتراجع عن هداها.
وندرك أن الصيام في صورته الصحيحة وممارساته القويمة من الناحية البدنية له العديد من الفوائد التي تعود على الصائم؛ فقد أكد أهل الاختصاص الطبي أن جهاز المناعة لدى الإنسان يقوى ويستطيع أن يؤدي مهامه المنوطة به، وفي مقدمتها محاربة الأمراض بتنوعاتها المختلفة شريطة أن يتبع الفرد الممارسات الغذائية الصحية، ومن ثم ينبغي تجنب الإسراف في تناول الكربوهيدرات، وتحرى الانتظام في تناول الوجبات في مواقيتها المحددة، وهناك العديد من الفوائد الصحية التي يصعب حصرها يجنيها الفرد من صيامه فيما يتعلق ببنيته الجسدية، وما نود الإشارة إليه مراجعة أنفسنا فيما يخص العادات الصحيحة وغير الصحيحة المرتبطة بالغذاء؛ لنتراجع ونهجر ما يضير، ونعزم النية على التمسك بالمفيد منها.
ويحض الشهر الكريم الفرد على صور الإنفاق والبذل والعطاء، وتلك محامد تؤكد صفة الكرم التي تتسق مع الطبيعة الإنسانية، وبما لا يدع مجالًا للشك فإننا في أشد الاحتياج على التدريب عليها، وتعويد النشء من أبنائنا على مزولتها بصورةٍ مستدامةٍ؛ فهذا يحقق ماهية التكافل والشراكة التي تضمن إشاعة المحبة والاندماج المجتمعي بين الأطياف والألوان والأجناس، وتدحر صور التمييز والكراهية، وتقلل من التحاقد والتباغض، ومن ثم يصبح هناك ضمانة للاستقرار المجتمعي والتعايش السلمي بمعناه الحقيقي.
ونوقن أن نهج الصيام يقوم على التربية النفسية التي تحض الإنسان على كل صور البر والرحمة، بما يخلق نفوسًا صافية تحمل الإخلاص في العبادة، وتسمو عن كل مظاهر الرياء والتفاخر والمغالاة؛ ليقترن العمل بالإيمان وتتشكل العلاقة المتجذرة القائمة على صفاء الروح التي تجعل القلب يتعلق بخالقه، ومن ثم يخشى الوقوع في محرماته؛ فلا يحتكر، ولا يخون، ولا يغلب المصلحة العامة على الخاصة، ويجنب ممارسة كل ما من شأنه أن يهدر حقوق العباد؛ فلا تمتد يده إلى ما لا حق له فيه، كما لا تمتد يده ولسانه بسوءٍ لإنسانٍ، وهنا يتأكد في نفوسنا أمر مهم وهو ثمرة الصيام كسياج يصون الفرد على مر الدهر من الانزلاق في المعاصي بشتى صورها.
ونذكر أنفسنا بأن هذا الشهر الفضيل يقوم على العمل لا التراخي، حتى نستشعر قيمة الصيام ومغزاه الحقيقي؛ فلا يعقل أن نهرع للنوم والتكاسل أو الانغماس في صور الترفيه؛ بغية إهدار الوقت أو استهلاكه كي لا نستشعر ألم الجوع والعطش، والحقيقة التي لا جدال حولها أن من يقوم بذلك يخرج نفسه من دائرة التربية الرمضانية المستهدفة؛ فيصعب أن تتطهر النفس وتسمو الروح بصاحبها ليغير من سلوكياته غير المرغوب فيها لسلوكياتٍ نتطلع أن تسود ويتمسك بها الجميع بمعنىً آخر تمثل ماهية القيم التي نؤمن بها؛ لذا علينا أن نؤدي أعمالنا على أكمل وجهٍ؛ لتزداد إرادتنا وتحي الضمائر وتطهر الأنفس، وننتصر على الشهوات التي من طبيعتها تميت القلب وتضعف العزيمة.
فرصتنا في تربيةٍ رمضانيةٍ حقة سانحة، وتحقيق الاستفادة المستدامة ممكنة؛ فالعيوب تعالجها طهارة النفوس، وسمو الأرواح حيال إيمانياتٍ معنويةٍ وبدنيةٍ نصبغها بسلوكياتٍ يوميةٍ نستشعر من خلالها مستويات الرضا تجاه وما نقوم به، وتعبر عن حالة الارتباط المعنوية مع خالق الكون.
حفظ الله وطننا الغالي وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر.