وتستمر الحياة، هكذا شاءت الأقدار بأن أتابع مساري الدراسي للسنة الثايية إعدادي، وقتئذ كانت الإعدادية تعج بعدد كبير من التلاميذ والتلميذات، فيما معشر الأساتذة والأستاذات كان عددهم يلبي الطلب ويفي بالغرض، حقيقة أني وباقي التلاميذ والتلميذات شعرنا بالفخر والاعتزاز كوننا ننتمي لمؤسسة تعليمية تسودها الضوابط الادارية وتكتسيها المناهج التعليمية المتميزة والمواكبة لعصرنا زمانئذ، فيما كانت القيم والأخلاق تشع من تصرفات التلاميذ والتلميذات ناهيكم عن تلك القدوة المثالية والأسوة الحسنة التي كان يتصف بها معشر الأساتذة والأستاذات علاوة على ما اتصف به كذلك الطاقم الاداري البيداغوجي” المدير، الحارسين العامين، وثلة من العاملين إلى جانبهم”.
وكضرورة ملحة وملزمة لي بمتابعتي لدراستي المشار إليها أعلاه، واطبت كما هو الشأن لجميع التلاميذ والتلميذات على الحضور الدراسي بشكل منتظم، كما دأبت على تركيز انتباهي داخل الحجرات الدراسية في مسعى مني حثيث لتلقي أسس العلم ومبادئ المعرفة، إلى حين منتصف الموسم الدراسي، حينها انقلبت حياتي الدراسية رأسا على عقب، وذلك نتيجة إصابة أختي “نجاة” بمرض مزمن تجلى في تعرضها لفشل كلوي مزمن وحاد، هذا المرض لم يكن ابتلاء من الله ولا قضاء وقدرا من لدنه، بل ترتب عن تقصير أبي في آدائه لواجب الأبوة إزاء أختي المريضة المسكينة، إذ لطالما ناشدناه ولكم من مرة توسلنا إليه لينقل أختي المريضة على متن سيارته ويذهب بها إلى الطبيب الأخصائي، أو على الأقل إلى المستشفى الاقليمي، لكن أبي كان أصم الأذنين، قاسي القلب، باستثناء لسانه الذي كان يخرج من فمه كثعبان الأناكوندا، لسان لا يذكر الاستغفار، ولا التسبيح، ولا التكبير، ولا التهليل، اللهم البداءة والسفالة والفحش …. الخ.
فكم من صبيحة كنت أهم بالذهاب إلى الاعدادية دون تناولي لوجبة الفطور كوني أمي كانت تخرج من المنزل قبل شروق الشمس وقبل استيقاظنا في مسعى منها الجلب لنا قوت يومنا من خبز وشاء وسكر “وجبة الفقراء والبؤساء”، وكيف لي أن أذهب إلى الاعدادية كسائر التلاميذ وأنا أرى أختي تتوجع في فراشها نتيجة ألم المرض المزمن، وتئن من وطأة الوجع، حينئذ لم أكن لأتمالك نفسي أمام هذا الوضع المزري، وما كان مني سوى أن أخرج من المنزل متوجها صوب السوق المحلي “المارشي القدية بالساكنية” وأنزوي قرب بعض الدكاكين المغلقة مفترشا على الأرض دفاتري، فأجلس واضعا رأسي بين ركبتي مجهشا بالبكا، فلا الأب معنا بالمنزل، ولا الأم دائمة بالبيت، فيما أختي المريضة قد أجبرتها الظروف ملازمة الفراشة طريحة بلا حول ولا قوة، لا دواء تجده لتشفى، ولا طعام جيد بحوزتها لتتغذى، ولا فواكهة موسمية أو حتى زيارات عائلية، باستثناء قنينة الماء العادي المملوء من الصنور، وكأس زجاج مليء نصفه بالماء الساخن والزعتر غاية لتخفيف الألم في انتظار التدخل الإلهي الذي كنا نصلي ونترجى شموله حالة أختي المسكينة.
طال مرض أختي نجاة، واستدام تغيبي عن الدراسة، مما جعلني تلميذا محط المساءلة الادارية داخل الاعدادية، بحيث أصبح من غير الممكن ولوجي الاعدادية إلا بحضور ولي أمري أو عبر إدلائي ما يبرر غيابي الغير قانوني هذا، كيف السبيل ياترى؟فإذا ما أخبرت أمي حثما ستستشيط غضبا على غضب، وكيف لي بأن أذهب إلى أبي الحاضر الجثة والغائب الروح، إذ حثما سوف سيطردني من منزله بلا هوادة، فما هو الحل يا ربي.
فكرت مليا، ونهاية المطاف اهتديت لفكرة طفولية بريئة قد تبدو للعامة ذكية لكني أصر أنها خطوة عفوية نابعة من فطرتي السليمة، إذ ما كان مني سوى أن ذهب إلى أستاذ يعمل بالادارة التربوية داخل الاعدادية التي أتابع فيها مساري الدراسي اسمه “أحمد الشعيبي” الذي كان منزله لا يبعد عن منزلنا كثيرا، فانتظرت ذات عشية عودته إلى المنزل وبينما هو يهم بفتح باب منزل يومئذ اغتنمت الفرصة واحنيت مقبلا يده فقال لي “الله يرضي عليك يا ولدي”، فعاودى الكرة مرة ثانية” فزاد قوله لي “أستغفر الله يا ولدي الله يرضي عليك دنيا وآخرة” فأجبه قائلا: “با الشعيبي، الله يرحم لك الوالدين، با مطلق مي، ومي النهار كامل وهي برا خدامة علي وخوتي، وختي مسكينة مريضة بزاف، وما عندنا لا حنين ولا رحيم من غير الله رب العالمين، الله يرحم لك الوالدين غدا طلب معايا المدير باش يخليني نرجع نكمل قرايتي، ولا راني غادي نضيه ومي متقدرش تتحمل هاد الشي”.
على إثر هذه المحادثة العفوية والبريئة، أمسك الأستاذ الشعيبي بيدي وطلب مني بأن يرافقني إلى منزلنا لتقصي الحقيقة ومعرفة صدق قولي وواقع حال أسرتي، لكني توسلت إليه بألا يخبر أيا من أسرتي عن مسألة غيابي عن الدراسة، فوعدني بذلك، فانطلقنا بعدها مباشرة وفي طريقنا بدأ يوجه إلي بعض الأسئلة التي عبارة عن استفسارات في محاولة منه لدراسة سلوكي وتقصي حقائق معاناتي وأفراد أسرتي، ولما طرقت باب المنزل فتحته في وجهي جدتي امباركة ثم قمت بإخبارها بأن الزائر المرافق لي هو بمثابة أستاذ بمدرستي الاعدادية ويعتبر أحد جيراننا الأقربين وقد جاء خصيصا لزيارتنا وتفقد حالة أختي نجاة المريضة، فرحبت به بكل شغف وفرح، فدخل الأستاذ أحمد الشعيبي وأنى أنظر إليه بطرف عيني لمعرفة مشاعره وأحاسيسه وهو داخل كهفنا البئيس، ووسط ووضعنا الأسري المزري، إذ كان تارة تارة يقول بصوت منخفض “لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم” كيف تعيشون هذا البؤس الكبير، وكيف لفتاة شابة أن تترك مهملة ها هنا على السرير بلا حركة ولا سكون باستثناء شخوص بصرها نحو السقف وكأنها تنتظر ملك الموت “عزرائيل” يا للهول يا ربي يا للهول.
نتيجة لتأسف الأستاذ أحمد الشعيبي لما نعيشة بشكل يومي من معاناة آنية، وآلام أختي التي لازمتها لوقت طويل، أبى هذا الرجل الشهم الأصيل إلا أن يمد جدتي بورقة نقذية من فئة “100 درهم” موصيا إياها بأن تشتري بعض الطعام والفواكه لأختي المريضة، فيما طلب مني أن أخرج معه إلى خارج المنزل، وهناك أمرني بأن أزوره بمكتبه الاداري صبيحة اليوم الموالي داخل الاعدادية، ففعلت ما أمرني بفعله، وتسنى لي بفضله العودة إلى مسايرة دراستي لبقية موسمي الدراسي، لكني لم أفلح في النجاح جراء تراكم مشاكلي هاته، وتراتب أحراني الدفينة رغم صغر سني.