عندما أشاهد عبدالحليم حافظ في أحد الأفلام على شاشة التلفزيون لا أتخيل أن هذا الفنان المتفرد قد غاب عن دنيانا قبل 47 عامًا بالتمام والكمال، إذ مازال حضوره مشرقا وصوته صادحًا يطرب الوجدان،
ومازلت أتذكر جيدًا كيف تلقينا خبر وفاته يوم 30 مارس 1977، حيث كنت آنذاك طالبًا في الصف الأول الثانوي بمدرسة شبرا الخيمة الثانوية العسكرية، فاعترانا الذهول وسرت في أركان المجتمع المصري نوبة حزن عميقة.
تجلت هذه النوبة في مأساة الفتاة التي فقدت رشدها وهرعت نحو العمارة التي يقطن فيها حليم بالزمالك ورمت نفسها من الدور السابع لتلقي حتفها في الحال،
بعد أن تركت لأسرتها رسالة دامعة تعلن فيها أن الحياة لا معنى لها مادام أغلى إنسان فيها وهو حليم قد مات اليوم!
ترى… ما السر الذي جعل عبد الحليم يتبوأ هذه المكانة المرموقة من قرن إلى آخر؟ ولماذا لم يبلغ أي مطرب آخر المجد العظيم الذي بلغه رغم أن صوت حليم محدود الإمكانات بشهادة نقاد الموسيقى والغناء؟
عندي سبعة أسرار تفسر ظاهرة عبد الحليم، ولكن قبل أن أتلوها عليك، أود إخبارك بأنني كتبت دراسة طويلة استحوذت على عشر صفحات كاملة في مجلة (دبي الثقافية)،
تلك المجلة التي كنت أدير تحريرها لمدة ثمان سنوات، وذلك في عدد مارس 2007 بمناسبة مرور 30 سنة ساعتها على رحيل العندليب الأسمر،
وكان عنوان الدراسة (عبدالحليم حافظ… الظاهرة والتفسير)، حيث اهتمت بها جمعية أصدقاء عبد الحليم ووضعتها في موقع الجمعية على الإنترنت.
أما الآن فإليك الأسرار السبعة التي تفسر ظاهرة حليم من وجهة نظر سياسية اجتماعية فنية :
1- ظهر حليم للمرة الأولى للجمهور في لحظة سياسية اجتماعية فارقة في حياة المصريين، فأغنياته التي عرفها الناس مثل (صافيني مرة/ يا تبر سايل/ على اد الشوق/ توبة/ أهواك) كانت عقب ثورة 1952،
وأول أفلامه (أيامنا الحلوة) و(لحن الوفاء) عرضا في مارس 1955، وأنت تعلم أن ثورة يوليو 1952 أطاحت النظام الملكي، بثقافته وباشاواته وانحيازاته وألقابه وأذواقه وشواربه وأزياءه وطرابيشه.
الأمر الذي جعل الناس تستقبل حليم بوصفه يمثل قطيعة تامة مع هذا النظام الذي عانت الملايين من استبداده وظلمه.
(كان عدد المصريين عام 1952 نحو 22 مليون نسمة يعيش منهم نحو 15 مليون في ظروف بالغة القسوة تتجلى في الفقر والجهل والمرض).
2- فتح جمال عبد الناصر في الخمسينيات الباب واسعًا أمام ملايين الشباب والبنات من أبناء البسطاء والفقراء لتدخل المدارس الثانوية والكليات بالمجان،
بعد أن كان التعليم مقصورًا على أبناء الأثرياء نظرًا لتكاليفه الباهظة أيام الملك. الأمر الذي رفع مستوى الذوق العام للغالبية العظمى من الشعب،
وأنت تعلم أيضا أن الطلبة هم الجمهور الأول للسينما على مر العصور، لذا واظبت الملايين على حضور أفلام عبد الحليم حافظ لأنها اكتشفت أن هذا المطرب الجديد يعبر عن طموحاتها وأحلامها،
وأذكرك بأن عبد الحليم قام ببطولة 15 فيلمًا وثلث الفيلم، (أعني البنات والصيف/ 1960)، تقمص فيها كلها شخصية طالب الجامعة أو الذي تخرج توًا من الجامعة،
باستثناء فيلم (دليلة/ 1956)، الذي لعب فيه دور كهربائي، ففشل الفيلم ولم يحقق النجاح المطلوب،
وقد قلت هذا الكلام في حواري مع النجم سمير صبري في لقاء أجراه معي قبل عشر سنوات في برنامج (ماسبيرو).
الغريب أن آخر فيلم لعبد الحليم (أبي فوق الشجرة/ 1969) جسد فيه دور طالب جامعة أيضا رغم أنه قد بلغ الأربعين من عمره آنذاك (مولود في 21 يونيو 1929).
3- الكلمات التي ترنم بها حليم في أغنياته بلهجة القاهرة تؤكد أنها تعبر عن مشاعر الطالب ابن القاهرة، واللهجة القاهرية طرية محببة وشائعة في كل أنحاء مصر ومعروفة للشعوب العربية كلها،
لذا لم يردد أو يعبر عن مشاعر ابن البلد أو الفلاح أو الصعيدي، ولك أن تتساءل هل كان من الممكن أن يغني حليم كلمات من نوع (با شبشب الهنا يا رتني كنت أنا)، أو (يا نجف بنور) أو (تاكسي الغرام)، أو (منديلي الحلو)
تلك التي تغنى بها مطرب “الجماد” عبد العزيز محمود، على اعتبار أنه يمتدح الجماد (تاكسي/ شبشب/ نجف/ شباك/ منديل)؟
أو هل كان من المستساغ أن يترنم حليم بكلمات من نوع (يا ولاد بلدنا يوم الخميس/ هاكتب كتابي وابقى عريس) التي غناها محمد فوزي؟
أو (ساكن في حي السيدة وحبيبي ساكن في الحسين) لمحمد عبد المطلب؟ أو (يا رايحين الغورية هاتوا لحبيبي هدية) لمحمد قنديل)؟ وبالمناسبة، فهذه الأخيرة غناها حليم وفشلت جدًا… وموجود تسجيلها في يوتيوب.
إذن كان الرجل يمثل قطيعة بمعنى من المعاني مع منطق الغناء الذي ساد قبل ظهوره.
4- انفعل عبد الحليم بصدق مع سياسات ثورة يوليو وآمن بتجربة عبد الناصر، فشدا بمجموعة مهمة وجميلة من الأغنيات الوطنية التي تلقاها الملايين بكل حماسة، ورددوها معه إيمانا بأنهم يسيرون في طريق التحرر من الاستعمار وتطوير البلد وتحقيق العدالة الاجتماعية،
ولتتذكر معي أغنيات (صورة/ حكاية شعب عن السد العالي/ بالأحضان/ المسؤولية/ بلدي يا بلدي)،
ولما وقعت الهزيمة في 1967 سارع حليم إلى بث روح المقاومة في نفوس سامعيه بأغنيات (عدى النهار/ سكت الكلام والبندقية اتكلمت/ احلف بسماها وبترابها/ المسيح).
5- لم يكن حليم بقادر على تحقيق هذا المجد لو تمنحه المقادير كوكبة معتبرة من الشعراء المتميزين والملحنين الموهوبين الذين أخلصوا للعهد الجديد من جهة،
كما أنهم كانوا أبناء بررة لإنجازات ثورة 1919، من جهة اخرى، تلك الثورة التي أسهمت بنصيب كبير وبالغ الأهمية في تطوير الذائقة الفنية لدى الناس،
ولنذكر من الكتاب والملحنين: سمير محجوب/ إسماعيل الحبروك/ مرسي جميل عزيز/ صلاح جاهين/ عبد الرحمن الأبنودي/ مجدي نجيب،
أما الملحنون فهناك محمد الموجي وكمال الطويل ومنير مراد وبليغ حمدي، وكبيرهم الذي علمهم الموسيقى والغناء الموسيقار الأعظم محمد عبد الوهاب.
6- البنيان الجسدي لعبدالحليم هو السر السادس في تفسير الظاهرة “الحليمية” إذا جاز القول،
فالرجل يتمتع بقسمات هادئة، فالعينان عميقتان يطل منهما بريق ذكاء يختلط بحزن عميق من أثر اليتم، والجبين منبسط يوحي بالاطمئنان،
أما الجسد فضئيل ونحيل يناسب الإنسان المسالم غير العدواني، لذا لم نره يشتبك بيديه في عراك مع أحد في أي مشهد من أفلامه، كما لم نره يضع الطربوش فوق رأسه كما كان يفعل مطربو العهد الملكي!
7- أما السر السابع فيتمثل في ذكائه الاجتماعي ومهاراته المدهشة في ترويج نفسه وفنه، فقد كان حريصًا على إقامة علاقات طيبة مع كبار الصحفيين والكتاب، ليضمن أنهم سينشرون أخباره ونشاطاته الفنية،
كما أسهم مرضه في جلب تعاطف الناس مع حالته، كذلك لعبت حكاية عدم زواجه دورًا مهما في ترويج صورته بوصفه شابًا وحيدًا يبحث عن الحب بلهفة.
أجل… كان عبد الحليم حافظ يمتلك صوتا حنونا واضح الحروف، كما كان يتمتع بإحساس طازج وصادق موشّى بأداء سلس،
لكن بدون الظروف المواتية التي ذكرتها قبل قليل، وإخلاصه الشديد في عمله، ما كان بقادر على الحضور بقوة والاستحواذ على إعجاب الناس واهتمامهم به من قرن إلى آخر.