ختاما مني لقصة وفاة أختي “نجاة” رحمها الله وأسكنها فسيح جناته، إذ يتزامن تاريخ اليوم مع ذكرى يوم وفاتها حيث توفيت مساء يوم 24 من شهر رمضان لسنة 1984م، ذلك اليوم الذي عشنا خلاله أسوء لحظات عمرنا المديد، بحيث عجزنا يومها عن جلبها من المستشفى بمدينة الرباط، كما أوجدنا القدر على إثر في حالة شلل تام “شلل مادي، شلل عقلي، شلل اجتماعي” كوننا لم نجد في حوزتنا أي درهم أبيض نتيجة فقرنا المدقع، وعمالة أمي كخادمة بيوت تارة تعمل وتارة أخرى لا تجد السبيل لتحقيق ذلك بسبب المرض أو قلة فرص الشغل، هذا في الوقت الذي تنكر فيه أبي من مسألة مساعدتنا من أجل إخراج أختي من مستودع الأموات بالمستشفى الجامعي “بن سينا” بالرباط ونقله إلى مدينة القنيطرة مقر سكننا لدفنها والترحم على روحها الطاهرة.
وبعدما أن شملنا الله برحمة وتمكنا من دفنها ليس هنا في مدينة القنيطرة ولكن في مدينة القنيطرة التي تبعد عن مدينتنا بمسافة طرقية كبيرة جدا، والشيء الذي حز في نفسي كثيرا ألا هو تعمد أبي لعب دور الأب المجروح والمتألم كونه لبس جلباب صاحب الألم المصاب زورا وكذبا وبهتانا أمام الله وملائكته وشرذمة من عبادالله المنافقين أصحاب الموائد المنتصبة والأكلات الدسمة، إذ قام أبي بشراء خروف كبير وسمين يوم حل الذكرى الأربعينية لوفاة أختي “نجاة” رحمها الله ونحره نحر العيد السعيد وكأنه أراد تقديم نحره هذا ليس قربانا إلى الله ليتغمد جثمان أختي الطاهرة في قبرها ويزكي روحها الزكية بالبرزخ الأعلى، بل أراد أبي كسب عطف ساكنة حيه السكني ليقولوا عنه مبجلين “يا له من أب رحيم” في حين أن الأمر عكس ذلك بكثير كون أبي لم يكن يوما ما رحيما مع أختي الميتة “نجاة” ولا مع أمي المسكينة المكلومة بمصابها الجلل، نعم هذه هي حقيقة أبي التي أخفاها عن أهل الأرص في حين يعلمها الله بعلمه الواسع وشهدت على كل أحداثها ووقائعها كل الملائكة بل حتى الجان ومردتهم من جن العفاريت والشياطين قد استنكروا لا أقول زلته ولا خطيئته ولا إثمه بل عدم إنسانيته التي تجلت ومنط زمن بعيد في قلبه الميت وضميره المنعدم وإحساسه اللاموجود أساسا، فكيف لأب أن يحرم ابنته قيد حياتها من الأكل والشرب والكسوة والتطبيب، ولما صارت طريحة الفراش جراء إصابتها بمرض مزمن “مرض الفشل الكلوي الحاد” هنا تملص من التقديم لها أدنى مساعدة ولم يمدها حتى بقنينة ماء معدني، أو حبة فاكهة، أو قطعة لحم أو شيئا من السمك أو حتى الخضر لإعدادها كوجبة سلطة مغذية ومقوية بعض الشيء، أو يعقل أن يحرم أبي أسرة بأكملها طيلة سنين خلت، ومن تم يتجاهل مآسيهم المعيشية ومعاناتهم الحياتية وفي الأخير يعمد عمدا مصطنعا بذبح ذلك الخروف السمين يوم الذكرى الأربعين لوفاة أختي “نجاة” رحمها الله، حيث يقول المفكر الإيراني علي شريعتي: “مات جارِي أمس مِن الجوع، وفِي عزاءِه ذبحوا كل الخِرافِ”.
بالنسبة لي شخصيا، عندما أسر لي أحد أقراني من تلاميذ دراستي الاعدادية الذي كان يسكن بجوار مسكن أبي بأن هذا الأخير قد نصب خيمة كبير بجانب منزله واستدعى علياء القوم من ساكنة الحي والمنطقة تخليدا منه للذكرى الأربيعية السالفة الذكر، وأنه قام بذبح ذلك الكبش العظيم، مستدعيا في ذات الوقت أصحاب البسملة المبسطة والتلاوة المرتلة والدعاء العريض والفصيح مع العلم أن همهم الوحيد والأوحد هو التغني بالقرآن الكريم سواء أكان المقام فرحا أو قرحا، المهم عندهم هو ملؤهم لبطونهم باللحم والأكل الدسم وتحصيل البعض من المال الذي هو في الحقيقة سحت في سحت إذ كيف لحاملي كتاب الله بأن يتقاضوا أجرا ماديا من ذوي الموتى أليس هذا الأمر حراما في حرام، بلى والله إنه لأمر منكر في العالمين، وملعون من يمارسه خفية أو علنا بين الناس أأجمعين.
يومئذ، ذهبت بعد غروب الشمس إلى منزل أبي دون إخباري لأمي بذلك، وكان غرضي من هذا الأمر جص نبض أبي ومعرفة حقيقة مشاعره الأبوية إزاء روح أختي المتوفية “نجاة” إذ قلت حينها في قرارات نفسي “لعل أبي قد رجع عن غيه، واكتشف خطأه، ولربما هو اليوم في حالة تصالح مع نفسه، ويريد التكفير عن سوء عمله”، وهكذا لما صرت داخل منزله وجده وقتئذ مملوءا عن آخره بعدد كبير من الرجال كل فئة منهم مجتمعة حول مائدة الأكل في انتظار منهم بأن يضعوا لهم الطعام الوفير لالتهامه كما تلتهم الضباع فرائسها بشراهة كبيرة ووحشية خطيرة، ولما تسنى لهم الأكل والشرب عوض ذكرهم لله رب العالمين، واستحضار مسألة الموت من أجل تذكير النفس الأمارة بالسوء بأن الحياة الدنيا فانية، وأننا هنا فيها مجرد عابرين لا دائمين إذ الخلد لله الواحد القهار، جميعهم كانوا يتذاكرون في أمور تافهة من أمور الدنيا الفانية، ومن فينة لأخرى يتخذون لهم كفاصل إشهاري بعضا من آيات الذكر الحكيم، ثم يعودن لشر أحاديثهم التي تلقي بالناس في شر جهنم خالدين “الغيبة والنميمة” نعم هكذا كان معظم حديثهم عن فلان وعلان، وعن هذا الذي كان محسنا وذاك الذي كان فاجرا أو فاسقا، والله العظين أني كنت أرى في غالبيتهم يومئذ “شياطين الإنس المتصنعين”، وفي موازاة هذا كله كنت قد عزفت عن الأكل يومئذ لأني كنت أرى في نفسي أني إذا ما أكلت ذلك اللحم سأشعر وكأني آكل لحم أختي “نجاة”ّ رحمها الله رغم أن أبي وفي إنصاف مني له بقول الحق حيال شخصه أنه كان يلح علي بإصرار شديد بأن أمد يدي إلى المائدة وأشارك أولئك المدعوين في الأكل الدسم الوفير، لكني اعتذرت له بأسباب واهية بالنسبة له لكنها مقنعة بالنسبة لي.
مأساة وفاة أختي “نجاة” وسوء تعامل أبي مع روحها الطاهرة، ونفاقه الاجتماعي الأبدي، جعلني أجزم بأني طفل نصف يتيم في هذه الحياة الدنيا، فاليتيم الحق هو من يكون والدية متوفيان سويا أو إحداهما لكني رغم وجود أمي بجانبي إلا أني شعرت بأن أبي لا يوجد في حياتي البتة، وهكذا قررت بأن أقول في نفسي كلما صادفت أعيني رؤيتي لأبي قولي “يخلق من الشبه أربعين” وسأكتفي حينها بأن من رأيته هو ليس أبي بل شبيه لأبي في مواساة مني لنفسي الجريحة وقلبي المكسور.
نعم، كل هاته الآلام والمعاناة جعلتني أقضي ثلاثة سنوات عجاف داخل الاعدادية، بحيث لم أعد متمكنا من متابعة مساري الدراسي، ولم تعد لدي أية رغبة في الدراسية بشكل كلي، كما أني قررت العيش بقية حياتي كطفل متمرد مجتمعيا ومنحرف أسريا ومنحل أخلاقيا، وهكذا كان مصيري الطرد من الاعدادية بمستواي الدراسي الرابعة إعدادي وكان ذلك سنة 1986م، بحيث أصبح مصيري التشرد والضياع، مع الحرمان من العاطفي هذه المرة من الحنان الأوي والأمومي والأخوي بما في ذلك فقداني الأبدي لحنان أختي “نجاة” رحمها الله وأسكنها فسيح الجنان، حياتي بعدئذ كانت جحيما حياتيا حقيقيا، عشت أهواله لوقت طويل، وذقت مخاطره بشكل كبير، إلى حين أن شملني الله برحمه وهو أرحم الراحمين.
… يتبع …
كما سأقوم قبل نهاية السنة الجارية بتأليف كتاب حول مأساة حياة أختي “نجاة” رحمها الله في العالمين.