أصبحنا اليوم بحاجة إلى مراجعة لكل آليات قواعد القانون الدولي بخاصة ميثاق الأمم المتحدة، في ظل دول لا تضع أي معايير لتطبيقه واحترامه، ومن المرجح أن يؤدي عدم الإصلاح بالنظام الدولي القائم، سواء بمبادرة من المجلس أو غير ذلك، إلى عدم تعزيز فعالية المجلس وشرعيته كمؤسسة دولية تعدّ أحد الأجهزة الرئيسة للأمم المتحدة.
تأثير حق الفيتو ( الاعتراض ) على عمل المحكمة الجنائية الدولية وعلى دورها في الإفلات من العقاب باعتبارها جهاز قضائي دولي مختص في متابعة مرتكبي الجرائم الدولية والأشد خطورة المنصوص عليا في نظام روما الأساسي، في اطار ما يتمتع به مجلس الأمن من سلطات ممنوحة له بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وكذا نظام روما الأساسي ، في ظل الأوضاع الدولية الراهنة خاصة ما تمر به كل من السودان وليبيا وسوريا وفلسطين .
تعود فلسفة وأصول منح حق النقض (الفيتو) إلى انتصار لمصلحة دول الحلفاء وما نجم عنه من معركة سميت بمعركة العلمين بين بريطانيا ودول المحور التي قامت بإرسال قواتها إلى شمال أفريقيا حيث كانت النتيجة ساحقة بهزيمة دول المحور واستسلام إيطاليا، ومن ثم تغيرت خريطة العالم من جديد، وظهرت قوتان عظميان جديدتان في العالم، هما: الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد السوفياتي، أي روسيا حاليا. إذ إن هذه الحرب أدّت إلى إضعاف دول أوروبا، وعلى رأسها دول الحلفاء، ومنها فرنسا، وبريطانيا، ولم تعد الدولتان تسيطران على العالم.
انقسم العالم إلى كتلتين هما: الكتلة الغربية بزعامة أميركا، والكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفياتي، وكان الهدف من ذلك نشر الحرية والتخلّص من الاستعمار. واستعادت كل الدول الأوروبية حدودها القديمة ما عدا بولندا، وقسمت ألمانيا إلى دولتين هما: الشرقية وعاصمتها برلين، والغربية وعاصمتها بورن، كما قسمت ألمانيا إلى 4 مناطق تخضع لنفوذ 4 دول مختلفة، هي: فرنسا، والولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد السوفياتي، وبريطانيا.
وأنشئت كل من الجمعية العامة، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، ومنظمة الصحة العالمية، وصندوق النقد الدولي. وأُسّست الأمم المتحدة بعد مؤتمر سان فرانسيسكو سنة 1945 بديلا عن عصبة الأمم التي لم تقدم كثيرا من الحلول المنطقية للشعوب. وفي الأمم المتحدة انضمت جميع الدول المستقلة في العالم، التي اقتنصت الفرصة للتعاون مع الدول الأخرى لكي تعيش بسلام .
لذلك نجد أن فلسفة وضع حق الفيتو بنيت على قواعد مصادرها ليست فقط بميثاق الأمم المتحدة، بل كانت مصادرها تتمثل في عامل ميزان القوة ومخرجات الحرب العالمية الثانية، لذلك استيقظ العالم على اصطلاح حق النقض أو الفيتو بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس هيئة الأمم المتحدة عام 1945، وقد منح لـ 5 دول فقط من أعضاء مجلس الأمن الدولي الذين بلغ عددهم 15 عضوًا (كان عدد الدول الأعضاء في المجلس عند تأسيس هيئة الأمم المتحدة 11 دولة)، وتوسع المجلس بحلول عام 1936 ليضم 4 أعضاء دائمين و11 عضوًا غير دائم. بانه وعلي الرغم من دعاوي إصلاح هذا النظام المعيب في مجلس الأمن التي تتمثل في عدم استخدام هذا الحق في الجرائم الجسيمة والتي ترقي إلى جرائم حرب، وبرغم قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المعنون “متحدون من أجل السلام” والذي أنطوي علي منح الجمعية العامة فرصة إصدار قرارات في الحالة التي يفشل فيها مجلس الأمن في ذلك عند استخدام احد الدول دائمي العضوية لحق النقض الفيتو، غير إن هذه الدعاوي في الغالب ما تصطدم برفض الأعضاء الخمسة الدائمين، كما إنه في الحالات التي قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتخاذ مسار بديل لم تلق آذان صاغية من المجتمع الدولي.
أن الاستخدام التعسفي لحق النقض الفيتو من قبل الدول الخمسة الكبرى دائمي العضوية في مجلس الأمن ينطوي على طيف واسع من الانتهاكات التي تتعارض مع حقوق الإنسان الأساسية، مثل انتهاك الحق في الحياة، والإفلات من العقاب، واتساع وتيرة الانتهاكات واستمرار الحروب والنزاعات، ففي سوريا على سبيل المثال يحتاج ما يقرب من 13 مليون شخص لمساعدات إنسانية خلال العام 2021، بزيادة قدرها 20% عن عام 2020، وقد ساهم في تضاعف هذا العدد الهائل من البشر المحرمون من أبسط حقوقهم المتمثلة في تلقي المساعدات الطارئة للبقاء على قيد الحياة، هو استخدام روسيا والصين حق الفيتو ضد قرار أممي لتمرير المساعدات الإنسانية في سوريا. وأضاف عبد الحميد أن روسيا استخدمت حق الفيتو منذ بداية الأزمة السورية أكثر من 16 مرة، خلال الفترة من أكتوبر 2011 إلى أكتوبر 2020، وخلال الفترة بين الفيتو الأول الذي استخدمته روسيا في سوريا والفيتو الأخير فإن عدد القتلى ارتفع من 2700 إلى أكثر من نصف مليون سوري، فيما تحول نحو نصف السوريين إلى لاجئين أو مشردين داخليا، وباتت سوريا في مصاف الدول الهشة التي ترتع فيها المليشيات والجماعات المتطرفة.
أن المتابع للتنظيم الدولي الذي يتمثل في منظمة الأمم المتحدة الموجودة في الوقت الراهن، وعصبة الأمم التي سبقتها، يجد أن ظروفاً دولية وعالمية معينة أدت إلى ظهورهما إلى حيز الواقع، وبالتالي فقد قامت الأمم المتحدة على أنقاض التنظيم الدولي ( عصبة الأمم ) الذي فشل في الحفاظ على السلم وتنمية التعاون بين الدول، ومع ذلك كان عهد العصبة سابقة تاريخية في التنظيم الدولي، وأخذ مؤسسو الأمم المتحدة كثيراً من الهياكل والمؤسسات التي كانت موجودة بالعصبة، ومن أهم تلك الهياكل مجلس العصبة وجمعيته.
وفي السنوات الأخيرة أكدت معظم الدول في أكثر من مناسبة على أن الأمم المتحدة بشكل عام ومجلس الأمن الدولي تحديداً يمر اليوم بواحدة من أخطر الأزمات التي واجهته منذ إنشائه بعد أن فقد معظم صلاحياته، او انتزعت منه أهم الصلاحيات التي أنشئ من أجلها، وهي الحيلولة دون قيام الحروب والمحافظة على الأمن والسلام العالمي خصوصاً في ظل هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على القرار العالمي وانتهاكها المستمر للمواثيق الدولية ومنها مبدأ تحريم استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولة خارج إطار الشرعية الدولية.
لاشك أن تتمتع الدول الكبرى الخمس بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن بحق الفيتو، وإشتراط موافقتها على أي قرار من المسائل غير الإجرائية هو إمتياز يحقق عدم المساواة الذي يقوم عليه التنظيم الدولي. فقد أدى تمتع الدول الكبرى بهذه الإمتيازات، إلى أن تتفق فيما بينها على حساب الدول المتوسطة والصغرى، التي حاولت مرارا وتكرارا التقليل من أثر استعمال حق الفيتو من قبل الدول الأعضاء الدائمين الخمس، والذي شل أعمال المجلس وعرقلة أداء المنظمة الدولية لواجبها الأساسي وهو حفظ السلام والأمن الدوليين. فلقد ظهر واضحا أن أكبر خطر يتعرض له الأمن والسلام الدوليان، نتج عن المنازعات بين الدول الكبرى وعن عدم الاتفاق بينها خاصة في السنوات التي تلت تأسيس المنظمة الدولية،
والتي انقسم فيها العالم إلى كتلتين كل بقيادة إحدى الدول العظمى، الشيء الذي يتناقض مع ما أعلن عنه في مؤتمر سان فرانسيسكو والذي أوجب التعاون الكامل بين الأعضاء كشرط ضروري لفعالية المنظمة الدولية. ولما كان واضحا من أن أي انشقاق بين القوى العظمى يعرض فعالية كل الأمم المتحدة إلى الخطر، اتفق في مؤتمر سان فرانسيسكو على أن لا يستخدم حق الفيتو إلا في القضايا الجوهرية، والمتسمة ببالغ الأهمية التي تتعلق بالأمن والسلم الدوليين.
كما أصدرت الجمعية العامة في دورتيها الأولى والثانية، قرارات تدعو الدول الخمس الكبرى إلى أن تبذل من الجهد ما يضمن ألا يؤدي استخدام حق الفيتو إلى عرقلة مجلس الأمن. بسبب عجز مجلس الأمن الدولي وفي أحيان كثيرة عن القيام بالمهمة الموكلة إليه (حفظ الأمن والسلم الدوليين) بسبب الاستخدام المتكرر لحق الفيتو،
الأمر الذي أدى إلى تعطيل أحكام الفصلين السادس والسابع من الميثاق وعلى نحو لا يتفق مع روح ميثاق الأمم المتحدة وبالتالي فإن هذا الأمر قد أدى إلى عجز الأمم المتحدة عن صيانة الأمن والسلم الدوليين أو أعادتهما إلى نصابهما عند الإخلال بهما، لهذا السبب وغيره من الأسباب بدأت تظهر أراء تدعو إلى أيجاد الحلول التي تضمن أعمال نصوص الميثاق بما يجعل المنظمة الدولية قادرة على أداء دورها وتحقيق الغاية التي وجدت من أجلها،
وقد اتجهت هذه الآراء إلى تلمس الحل في اختصاصات الجمعية العامة التي هي الجهة الوحيدة التي تشارك مجلس الأمن في حفظ السلم والأمن الدولي أو أعادته إلى نصابه عند اختلاله، فأخذ أصحاب هذا الآراء بدراسة نصوص الميثاق المتعلقة بالجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي ويتوسعون في تفسيرها وكان من بين ما ينشدونه القضاء على التمييز بين أعضاء الأمم المتحدة هذا التمييز الذي كرس بشكل واضح في مجلس الأمن الدولي والذي لا يظهر ضمن نطاق الجمعية العامة. إن الجمعية العامة للأمم المتحدة هي جهاز من بين عده أجهزة في الأمم المتحدة ولم تعطى تصرفاتها القانونية قوة القرارات الإلزامية بسبب عدم اختصاصها في التنفيذ
وذلك بسبب بطء عمل الجمعية العامة مما يعقد عملية اتخاذ القرار في الوقت الذي تحتاج فيه إلى السرعة لمعالجة المستجدات الدولية مما حتم وجود جهاز مختص يقوم بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة ويملك الوسائل القانونية والمادية التي تساعده على تنفيذ مهامه الموكلة إليه حسب الاختصاص في ميثاق الأمم المتحدة ولكن تاريخ الأمم المتحدة أثبت أن قرارات الجمعية العامة ذات قيمة أخلاقية كبيرة وهي في كثير من الأحيان نجحت حيث فشل مجلس الأمن الذي كثيراً ما وقع رهينة التجاذبات بين الدول الخمس الأعضاء مما شل عملية اتخاذ القرار في مجلس الأمن خصوصاً في فترة الحرب الباردة وجعل العدالة الدولية معطلة دائماً لصالح الاستقرار الذي تريده الدول الكبرى. وعند فشل مجلس الأمن كانت الجمعية العامة تتصدى لتلك القرارات عبر توصيات عدة لكن هذه التوصيات رغم القيمة القانونية إلا أن الأمم المتحدة ظلت عاجزة عن أمثلاك الوسائل والآليات المناسبة لتنفيذ توصياتها مما أفقدها قيمتها القانونية ،
وذلك من ناحية عدم التطبيق وعطل العدالة الدولية حيث أن العدالة لا تعني وجود قوانين مثالية، ولكن القدرة على تطبيقها. ولكن مع ذلك خرجت كثير من التوصيات إلى اطار التنفيذ مما أضاف كثيراً إلى العدالة الدولية نوعا ما، وجعل الجمعية العامة متنفسا للدول الصغرى بعيداً عن هيمنة الدول الكبرى على مجلس الأمن.
تساهم الجمعية العامة في حفظ السلم والأمن الدوليين، غير أن هذه المساهمة تختلف في طريقتها عن مساهمة مجلس الأمن الدولي، لقد أعطى الميثاق في المادة العاشرة منه للجمعية العامة سلطات بالقول (للجمعية العامة أن تناقش أي مسألة أو أمر يدخل في هذا الميثاق)، ويفهم من نص المادة المذكورة أنه يحق للجمعية العامة أن تناقش أي نزاع دولي متى ما كان يشكل تهديدا للأمن والسلم الدوليين وأن على الجمعية العامة أن تتخذ كل التدابير اللازمة لتطويق هذا النزاع ريثما تعرضه الأطراف على محكمة العدل الدولية،
وتأكيدا للدور الذي تضطلع به الجمعية العامة في حل المنازعات الدولية عاد الميثاق وأكد في الفقرة الثانية من المادة الحادية عشر على أن (للجمعية العامة أن تناقش أي مسألة تكون لها صلة بحفظ السلم والأمن الدولي يرفعها إليها أي عضو من أعضاء الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو دولة ليست من أعضائها)،
وتصدر الجمعية قراراتها في المسائل المهمة بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين المشتركين في التصويت، وطبقا للمادة الرابعة عشر من الميثاق فللجمعية العامة أن توصي باتخاذ التدابير اللازمة لتسوية أي موقف مهما كان منشؤه قد يعكر صفو العلاقات الودية بين الأمم ويدخل في ذلك المواقف الناشئة عن انتهاك أحكام الميثاق الموضحة لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها.
لقد تجاهل المدافعون عن وجوب وجود حق الفيتو، أن استعماله كان للدفاع عن مصالح الدول الكبرى في نطاق مجلس الأمن، متناسين كذلك أنه ليس من الضروري أن يكون استعمال الدول الكبرى لحق الفيتو هو وسيلتها الوحيدة لمنع صدور مثل هذه القرارات. كما تجاهلوا استشارة الدول العظمى بحق الفيتو عندما بالغت في استعماله ضد إدارة الشعوب المغلوبة والضعيفة والفقيرة، حتى أهدرت مصالحها فحرم البعض من استقلاله ومن استرداد حقه في تقرير مصيره. وحرم البعض من استرجاع أوطانه المستعمرة من قبل الاستعمار، والسيطرة بالقوة من قبل الأنظمة العنصرية، كما هو حال فلسطين وقبلها جنوب إفريقيا وناميبيا وغيرها، كما تعرقل انضمام دول جديدة إلى المنظمة الدولية، كانت تريد أخذ مكانها في هذه المنظمة، والمشاركة فيها، انطلاقا مما جاء في ديباجة الميثاق.
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان