أراك تظن بل انت متأكد أن العنوان على سبيل المبالغة أو الفرقعة الصحفية ..
ولا تتصور أبدا أن “إحسان عبدالقدوس” بجلالة قدره يمكن أن يأوي إنسان قاتل تبحث عنه الشرطة في كل مكان .. مش معقول .. المؤكد في رأيك أنه فيلم عربي من تأليف إبنه اللي هو أنا !! وبطولة والده الكاتب الكبير وفيه يأوي قاتل !!
وما رأيك يا حضرة القارئ أن عنوان مقالي صح تماماً : القاتل في حماية أبويا .. وليس فيلم عربي بل هو واقع حدث في حياته بالفعل.
ومنه أستمد قصته الشهيرة “في بيتنا رجل”.
التي تحولت إلى فيلم عربي بالفعل بطولة “عمر الشريف وزبيدة ثروت ورشدي أباظة وتوفيق الدقن” وغيرهم من عمالقة التمثيل رحمهم الله جميعاً.
وإذا كنت حضرتك لأول مرة تسمع أو تقرأ ما أقوله فلا شك أن الذهول قد أصابك وتطلب مني على الفور ذكر كل ما أعرفه عن هذا الموضوع ، وإزاي والدك قام بإيواء قاتل في بيته ، وكيف رضى على نفسه أن يأوي من يسفك دم غيره متعمداً ؟؟
ولو كان قد تم ضبطه عند “إحسان” لتغير مستقبله تماماً .. وبدلاً من أن يكون والدك كاتب كبير وصحفي له مكانة مرموقة في المجتمع فسيكون خريج سجون !! وله سابقة جنائية وهي التستر على قاتل !!
وأبدأ حكاية هذا الموضوع من أوله ..
كان وقتها قد تولى توا رئاسة تحرير “روزاليوسف” عام ١٩٤٥ وأجرى تعديلات جذرية في سياستها ، وأصبحت مجلة ثورية من الطراز الأول تفتح أبوابها لمن يطالب بالتغيير من كل الإتجاهات..
وفي عام ١٩٤٦ وقع حدث ضخم في مصر كلها يتمثل في إغتيال “أمين عثمان باشا” المقرب من الإنجليز في قلب القاهرة وتم القبض على القاتل واسمه “حسين توفيق” لكن الخلية الثورية التي تتبعها ومن بينها “أنور السادات” إستطاعت تهريبه .. وكانت تعد العدة لسفره إلى “سوريا” ، وتبحث عن مخبأ يأويه حتى يحين موعد السفر.
ووقع إختيارهم على والدي رحمه الله لعدة أسباب .. فالمجلة التي يشرف عليها تدعو إلى الثورة ، وهذه فرصة لبيان حقيقة معدنه وكشفه على حقيقته ..
هل هو بالفعل من دعاة التغيير الحقيقي ، ويتحمل كل المخاطر المترتبة على ذلك ، أم هو “بياع كلام” !!
والسبب الآخر والأهم أن البوليس عندما يبحث عن القاتل الهارب لا يمكنه أن يخطر بباله بأنه في منزل رئيس تحرير مجلة من كبريات مجلات مصر !!
بالإضافة إلى أن العمارة التي يسكن فيها تقع في شارع “القصر العيني” وعلى بعد خطوات من مجلس الوزراء ، وفي هذه المنطقة كانت تضم مختلف الوزارات في ذلك الوقت ومش معقول القاتل يختبئ هناك !!
وكان إختبارا صعباً “لسانو” وهو الاسم الذي أشتهر به بين أسرته وأصدقائه المقربين ..
ونجح فيه نجاحاً باهراً ..
لم يتردد لحظة في إيواء القاتل “امين عثمان” ..
ومكث في بيته أيام ثلاث كان أبي يمارس فيه حياته العادية ، بينما الرجل الهارب جالس مع جدي والد “سانو” وكان يعيش معه واسمه “محمد عبدالقدوس” وقد سميت على أسمه ..
إنسان فنان لطيف ورقيق وظريف ونسي “حسين توفيق” وهو جالس معه أنه هربان وان الشرطة تبحث عنه في كل مكان.
وقد عرضت مكافأة قدرها خمسة آلاف جنيه لمن يساعد في القبض عليه .. وهذا المبلغ عام ١٩٤٦ يعني على الأقل خمسين مليون عام ٢٠٢٤ !!
وكان الراديو يقطع إرساله في هذه الأيام ليهدد كل من يأويه بعقوبات صارمة بالإضافة إلى المكافأة الخيالية التي في إنتظار من يدلي بمعلومات تؤدي إلى ضبط القاتل الهارب.
ولم يعرف أحد أين كان يختبئ “حسين توفيق” حتى سقط النظام الملكي وانكشف السر ..
ومن أهم تداعيات هذه الحكاية بداية علاقة وطيدة نشأت بين حبيبي أبي و”أنور السادات” رحمه الله وكان من أفراد هذه الخلية وحصل على حكم بالبراءة ، وعن طريقه كانت بداية في التعرف على الضباط الأحرار الذين كانوا يعدوا العدة للإطاحة بحكم الملك ، وقد ساعدهم كثيراً في قضية الأسلحة الفاسدة التي تتعلق بحرب “فلسطين”.
وكانت حملة صحفية كبرى أدت إلى مزيد من السخط على الحكم القائم خاصة بين الضباط الأحرار وعجلت بالثورة ، وربنا يرحم الجميع ..
كانت أيام لا تنسى في تاريخ مصر.