بَينما احد الملوك يَطوفُ في قَصرٍ لَه إذ مَرَّ بجاريَةٍ لَهْ سكرى وهي تَسحَبُ أذيالها مِن التيهِ، فراودَها عَنْ نَفسها فقالت: يا مولاي إنَْكَ قَدْ هَجَرتَني مُدة ولَم يَكُن عِندي عِلمٌ بموافاتك فانظِرني اللَّيلةَ حَتى أتَهَيّأ للُقياكَ وآتيكَ في غَدٍ.
فلَمّا أصبَحَ انتظرها فلَم تَجئ فقامَ ودخلَ عَلَيها وسألها إنجاز الوَعد، فقالَت: يا مولاي أما عَلِمتَ أنَّ كَلام اللَّيل يَمحوه النَهار!.
فخرجَ وكانَ بالبابِ مِنْ الشُعراء مُصعَب والرَقاشي وأبو نُواس فأمرَ بِهم فدَخلَوا فلَمّا جَلسوا بَيْنَ يَديهِ قال: ليَقُل كُل واحِد مِنكم شِعراً يَكونُ آخِرهُ “كَلام اللَّيل يَمحوه النَهار”
فأنشأ الرقاشي يَقول:
مَتى تَصحُو وقلبُكَ مُستطارُ
وقد مُنعَ القَرارُ فلا قَرارُ
وقد تَرَكَتكَ صَبًّا مُستهاماً
فتاةٌ لا تَزورُ ولا تُزارُ
إذا استنجَزتَ مِنها الوَعدَ قالَت:
كلامُ الليلِ يَمحوهُ النهارُ
وقالَ مُصعَب:
أَتعذِلني وقَلبي مُستَطارُ
كئيبٌ لا يَقرُّ لَهُ قَرارُ
بِحُبّ مَليحَةٍ صادَت فؤادي
بأَلحاظٍ يخالطُها احورارُ
ولَمَّا أَن مَدَدتُ يَدي إلَيها
لألمِسَها بَدا مِنها نِفارُ
فقلتُ لَها عِديني مِنكِ وَعداً
فقالَت في غَدٍ مِنكَ المزَارُ
فلَمّا جِئتُ مُقتَضياً أَجابَت
كَلامُ اللّيلِ يَمحوهُ النهارُ
وقالَ أبو نواس:
وَخُودٍ أَقبَلَتْ في القَصرِ سَكرى
ولكن زَيَّنَ السُّكرَ الوَقارُ
وقَد سَقَطَ الرِّدا عَن منكَبَيها
مِنْ التَّجميشِ وانحَلَّ الإِزارُ
وهزّ الريحُ أردافاً ثِقالاً
وغُصناً فيهِ رمانٌ صِغارُ
هَمَمتُ بِها وكانَ الليلُ سِتراً
فقامَ لَها عَلَى المَعنى اعتذارُ
وقالَت في غَدٍ فمَضَيتُ حَتّى
أتى الوَقت الَّذي فيهِ المَزارُ
وقلتُ: الوَعدَ سَيِّدَتي فقالَت:
كَلامُ اللَّيلِ يَمحُوهُ النَّهارُ
فقالَ له: وَيلَك أكُنتَ مُطَلِعاً عَلَينا في القَصر ..؟
فقال: لا والله يا مولاي ولكن نَظرتُ إليكَ فعرفتُ ما في نَفسَك وعَبَّرتُ عَمّا في ضَميرك فأمرَ لَهُ بأربَعةِ آلاف دِرهم ولصاحِبَيه مِثلها.