خرائط تروتسكي.. وخريطة أبي *
(أوكرانيا… كييف… ماريوبول… إقليم دونباس… البحر الأسود… بحر آزوف) وغيرها من المناطق والمدن هي حديث الساعة في العالم كله منذ 24 فبراير 2022 وحتى اللحظة بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
ومع ذلك أكاد أزعم أننا في مصر لا نكاد نعرف عنها شيئا قبل هذه الحرب، لا موقعها الجغرافي ولا أهميتها التاريخية، ومن ثم لا نستطيع فهم أسباب هذه الحرب ومصيرها بعد أن احتشدت دول الغرب دعمًا لأوكرانيا.
هذا الغياب شبه التام للمعارف الجغرافية لدى الكثير من الناس واحد من ضمن مثالبنا الكثيرة، على الرغم من أنه بدون محصول جغرافي سخي لا يمكن فهم السياسة وألاعيبها، ولا يمكن أيضا استيعاب قعقعة السلاح المفاجئة أو تفسير أنهار الدم المتدفقة.
للأسف، لم يعمل أحد بنصيحة تروتسكي الثمينة، لا هنا ولا هناك، فلو كان الناس استمعت إلى هذه النصيحة، لكنا تعاملنا مع هذه الحرب وملابساتها بوعي أكثر، فمن هو تروتسكي؟ وما هي نصيحته؟.
أما ليون تروتسكي، فهو مفكر وثائر روسي ولد سنة 1879 وكان القائد الثاني لثورة 1917 بعد لينين، وأسس الجيش الأحمر، ثم بعد موت لينين 1924 عزله ستالين من منصبه ونفاه، إلى أن أرسل من يقتله في المكسيك عام 1940.
ترك تروتسكي العديد من الكتب المهمة في السياسة والفكر والأدب، كما دوّن سيرته الذاتية في جزأين بعنوان (حياتي)،
وأما نصيحته المدهشة فتتمثل في ضرورة وضع خرائط ضخمة للعالم كله في الميادين العامة ليفهم الناس أسباب الصراع المحتدم الذي ينشأ بين الدول،
لأن أي صراع يدور دومًا حول المصالح الاقتصادية في المقام الأول. هذه المصالح تتجلى في الأرض بمناخها وتضاريسها ومواردها، وفي المياه ببحورها وأنهارها وجزرها، ثم في البشر وكثافتهم السكانية،
لكل ذلك ينبغي أن يلم المرء بالخريطة قبل أن يتحدث في السياسة، وإلا كان من الغافلين.
أطلق تروتسكي نصيحته الغالية هذه قبل قرن من الزمان، فلم ينصت له أحد إلا قليلا، وها هي الحروب تستعر في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، والكثير من الناس يقف حيالها حائرًا مترددًا لا يجد لها تفسيرًا.
أما خريطة أبي، فتعود إلى مطلع خمسينيات القرن الماضي، حين علق والدي المرحوم الجليل عبدالفتاح عراق (1924/ 1995) خريطة للعالم العربي على جدار الصالة في شقتنا البسيطة بشبرا البلد.
ومن أسف لم أر هذه الخريطة، ولا أذكرها على الإطلاق، فقد انتقلنا من هذه الشقة وعمري أربع سنوات فقط،
لكن وفقا لما ذكره لي شقيقي الأكبر المهندس فكري، رعى الله أيامه ولياليه، فإنه يتذكرها جيدًا، فهو من مواليد 1947، حيث أكد لي أن مساحة الخريطة كانت في حدود 100 سم في 70 سم،
وأنها ظلت معلقة سنوات طويلة حتى هجرنا تلك الشقة، وأنه يتذكر والدنا جيدًا وهو يشرح تفاصيلها له ولشقيقنا الأكبر المرحوم إبراهيم (1945/ 2011)، الذي افتتن بالجغرافيا أيما افتتان،
وهو الذي علمنا جميعًا، نحن أشقاءه الصغار، أصول فهم الجغرافيا وعلاقتها الوثيقة بالتاريخ والسياسة والاقتصاد وحركة السكان، كما أوضح لنا إبراهيم، الدور الحاسم للجغرافيا في تأجيج الصراعات وإشعال الحروب على مر التاريخ.
إن ضرورة التزود بالمعارف الجغرافية أمر حتمي، فإذا كانت مصر قد أنجبت سليمان حزين وجمال حمدان في القرن الماضي، فمعنا الدكتور عاطف معتمد في القرن الحالي، وهو أحد نوابغ مصر في الجغرافيا،
كما أنه يملك مهارات لغوية عظيمة جعلته يهدينا كل يوم “بوستات” مفيدة وممتعة في فيسبوك عن الجغرافيا وسحرها ومكائدها وألاعيبها.
أجل… الجغرافيا هي المفتاح السحري لفهم السياسة والتاريخ والاقتصاد، لذا كلما تابعت وقائع أي حرب تذكرت تروتسكي، وترحمت على أبي!