أنا مصابة بلعنة التفاصيل وربط الأحداث ببعضها ،لاأذكر متى مستني هذه اللعنة فربما ولدت بها كمتلازمة أو مرض أو إعاقة ولادية .
غالبا مايثير ذلك دهشة زوجي حين أخبره بالتفصيل مع الشرح كلمات أغنية ما فينظر في وجهي باستغراب ويقول :
_كيف تتمكنين من حفظ هذه الكلمات الغريبة ومعظمها باللهجة المصرية!! ،أنا لاأركز في الكلام حتى وكل مايستهويني غالبا هو اللحن !!
أحيانا حين تحاول أن تفهم الأمر فتحلل وتربط وتركز ستبدو للآخرين غريب الأطوار أو أحمق بطيء الفهم كما حدث مع الدكتور الفنان علاء بشير(جراح تجميل ورسام ونحات) ، في لقاء تلفزيوني يبث على قناة تلفزيون الشباب العراقية،
كانت المذيعة صغيرة الحجم والعمر والعقل توجه الأسئلة التافهة للدكتور علاء بشير وتنتظر منه الإجابة لكنه يفاجئها بالصمت الطويل ، يتفرس في وجهها المطلي بألوان قوس قزح لعدة دقائق ثم يجيب باقتضاب شديد ويصمت.
أزعج هذا المذيعة القزمة فراحت تستفزه بقلة أدب ، لاحظت زميلتها الأكبر منها ببضعة سنوات و كيلوغرامين من الثقافة زيادة عنها أن الوضع صار محرجا ومخجلا وشخص موهوب وذكي مثل الدكتور علاء بشير بالتأكيد ليس غبيا كما يبدو الآن لكن من عادته أن يفكر قبل أن يجيب ولكي ينهي تلك التفاهة ولاينزلق بكلام لن يفهمنه مطلقا راح يقلص ردوده كقماش ينكمش بعد الغسيل ، فقالت لزميلتها التافهة :
لحظة من فضلك اسمحي لي أنا سأتولى الحوار مع الدكتور
ثم بدأت بصبر وترو تسأل وتنتظر ،صمت،جواب مقتضب،صمت،وانتهت الحلقة بفضيحة إعلامية وجمهور شاهد فقال:
هذا الدكتور بطيء الفهم! وآخر شاهد فقال: شخصية كهذه من العار أن يحاورنها صغيرات حمقاوات جاهلات (لقد فضحتونا).
وإضافة لمشكلة التفاصيل والغور في العمق والربط هنالك مايسمى بالشرود عند الأشخاص الذين يمتلكون عقلا لايكف عن التفكير خمسة وستين ساعة في اليوم .
وقد حصل هذا الشرود المخجل
مع نيوتن يومها كان جالسا إلى مقعده بعيدا عن المدفأة، شاردا يشعر بالبرد فنادى على خادمه طالبا منه أن يخلع المدفأة من الجدار ويقربها من المقعد ،عندها قال له الخادم بكل أدب :
_سيدي لو قربت مقعدك من المدفأة سيكون ذلك أفضل.
ولاأدري إن كنت أنا في حالة شرود أم أردت مزيدا من التفاصيل حين انبرى أمامي أبني البكر كالسيف وراح يطلب مني شراء شيء ما فطرحت عليه عدة أسئلة كي أفهم الموضوع ،ولأن هذا الجيل نزق عديم الصبر رد علي الوغد وقال ساخرا :
_ (ماما بس اريد افتهم شلون نجحتي من كلية الطب هيء هيء هيء ها ها ها )
ثم شاركه بمزيدا من ال هيء هيء هيء هيء ها ها ها الوغد الصغير الآخر ولدي الذي بدأت تنبت أسنان مراهقته للتو ، وراح الوغدان يتنمران علي بسعادة كبيرة وهما لايعلمان أن التنمر محرم دوليا في قانون الأمهات ولو جربت وقلت لأمك السابحة بعرقها وهي خارجة من المطبخ أن طعام اليوم فيه ملح كثير فربما طعنتك بسكين المطبخ العالقة في كفها منذ الصباح وطعنت معك الجيران والحلاق والقصاب في الدكاكين المجاورة لبيتكم.
لكني وبابتسامة صبر عريضة التصقت على وجهي قلت له :
تعلم أنني بطيئة الفهم وغبية قليلا فتحملني وأجب عن أسئلتي .
وحين قال ماكان قد ابتلعه من كلام سابقا تبين أن ماصرح به بداية شيء وما أراده هو شيء آخر تماما .
عندها قلت له ممازحة :
تعال سأقص عليك بعض من قصص غبائي في كلية الطب ومابعدها لتضحك قليلا .
وبوجه متحمس مبتسم قال :
_اوكي
قلت أسمع
مرة أثناء عملي كطبيبة رعاية أطفال وحوامل أتت امرأة تصطحب صغيرها الذي قارب السنتين وهو مصاب بزكام بسيط ، نظرت إليه فقلت:
_طفلك جميل لكن له عينان غريبتان ألم تنتبهي لها؟!!!!
ضاحكة سعيدة قالت :
اه نعم أن عينيه واسعتان جميلتان قلت نعم هي جميلة لكنها مريضة .
متفاجئة قالت:
كيف؟ ماذا تقولين يادكتورة!! اسمعيني ، هذا ليس من اختصاصي ولست طبيبة عيون لكن حسب ماأرى فطفلك قد يكون مصابا بداء الزرقاء الولادي الكلوكوما(glaucoma) وهذا أمر خطير جدا أذا تم أهماله ، أعتقد بضرورة زيارة طبيب عيون حالا .
صامتة مندهشة ودعتني ورحلت ، وبعد عدة أشهر زارتني مع طفلها في موعد لقاحه ، حيتني بحرارة قائلة:
_(شلون اجازيج وشلون اشكرج لوما انت جان ابني عمت عيونه )
ماحدث ان الأم اخذت كلامي على محمل الجد وزارت طبيب العيون في نفس اليوم وتبين أن طفلها مصاب بداء الزرقاء الولادي وهو في عمر حرج جدا ولو تأخرت أكثر لفقد طفلها البصر .
كان ابني يستمع وهو يحبس أنفاسه فأضفت قائلة:
لم أكن قد شاهدت حالة الكلوكوما عمليا أبدا لكني قرأت عنها فقط وحين نظرت لعيني الطفل وجدتها غريبة قليلا فربطت ماقرأته وقلت ماقلته ، فمن غير الممكن أن نشاهد اثناء تدريبنا في كلية الطب أو التمرين في الإقامة الدورية كل ماقرأناه نظريا ، وهكذا بكل بساطة تتخرج مع معلوماتك وأنت وربك ياموسى أو كما قال أحد أساتذتنا الكبار في كلية الطب يوما
Mdicin is the art of diagnosis
الطب هو فن التشخيص
نعم هو فن وفراسة وتفاصيل وربط وموهبة الربط
قال أبني وهو يبحلق في وجهي :
_ (اووه الطب شغلة مزعجة ومتعبة وخطرة الحمد لله ابد ماافكر ادخل كلية الطب )
قلت له وأنا أسحب بهدوء أقرب وأكبر نعل من على الأرض واتخذ وضع الإستعداد كي أصيب رأسه الذي استطال كثيرا وهو يمد عنقه ويتأمل .
_ (متفكر تدخل كلية الطب ها!!! ولك أنت خدمتك بالسادس اعدادي اطول من خدمة ابوية بالعسكرية ، أمشييي )..
طراااخ طررريخ طراااخ…
لاأذكر ماالذي حصل حينها لكني سمعت صوت النعل وهو يرتطم بشيء ما وصوت أقدام تجري وأبواب تغلق ومنذ ليلة أمس لم أر أحدا منهما يخرج من غرفته رغم أنني كنت أتحدث كأم لطيفة وصبورة ومبتسمة وقد اشتقت لطول لسانهما ووضاعتهما لكن الهدوء جميل أيضا للأمهات لذا جلست أكتب هذا المقال وأنا أقضم قطع الشكولاتة اللذيذة خاصتهما والتي تركاها مثلي وحيدة وهربا ..الجبانان.