تعرفت على النجم الراحل سمير صبري بشكل شخصي عام 2014، فتأكد إحساسي االقديم بأنه مثقف من طراز رفيع، حيث أذكر جيدًا إجاباته في برنامج (من غير كلام) الذي كان يذاع في ثمانينيات القرن الماضي على ما أذكر،
إذ بدا الرجل عليمًا بتاريخنا السينمائي والمسرحي بشكل مدهش، فلم يفلت منه سؤال، ولم يتردد في إجابة، رغم أن الكثير من زملائه الفنانين المشاركين معه في حلقات البرنامج كانوا قليلي المعارف بتاريخ الفن الذي مارسوه واحترفوه!
كما أتذكره جيدًا وهو يقدم برنامجه الأشهر (النادي الدولي) في سبعينيات القرن الفائت، وكيف كان يستضيف محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ ونور الهدى وكابتن لطيف وفريد شوقي وغيرهم ليجري معهم حوارات مترعة بالذوق والأدب والثقافة والطرافة،
وقد سألته مرة ونحن نجلس على شاطئ النيل (هل صحيح يا أستاذ سمير أنهم أوقفوا برنامجك النادي الدولي لأن إحدى ضيوفك من الراقصات قالت لك إنها من ميت أبوالكوم بلد الرئيس السادات؟)، فأكد، والأسى يحوم حول جفنيه، صحة ما قيل آنذاك.
أما أول تواصل مباشر بيننا، فقد حدث عندما تلقيت منه اتصالا تليفونيًا في مكتبي حين كنت رئيس تحرير تنفيذي لموقع (كايرودار) عام 2014، إذ أبدى إعجابه، مشكورًا، بما كتبته عن فيلم (الوردة البيضاء) في باب (عطر الأحباب) الذي كنت أحرره كل جمعة في صحيفة (اليوم السابع/ النسخة الورقية).
وهكذا اتفقنا على لقاء في باخرة راسية على شاطئ النيل أمام نادي القاهرة بالزمالك.
في هذا اللقاء الأول تحدثنا طويلا عن الفن والسياسة، كان الرجل بسيطا، تشع من وجهه بسمة محببة، ذا صوت مرتفع نسبيًا. يرتدي بنطلون جينز وبلوفرا غامقا فوق قميص فاتح،
وقد أخفى بإحكام عنقه فلم يظهر منه شيء، وأظن أنه فعل ذلك ليداري غابة التجاعيد التي استحوذت على عنقه.
وكعادتي مع الذين يكبرونني في العمر ألتزم بطرح الأسئلة، وأنتظر إجاباتهم بشغف، تلك الإجابات التي قد تتناسل منها أسئلة أخرى،
وهكذا مضينا نحو ساعتين، حيث تدفق في الحديث كأننا صديقين من زمن طويل. وللأسف لاحظت أن سمعه به عطب واضح، كذلك اعترت عينه اليمنى بعض الإنهاك المقترن بكسل بسيط في حركتها الطبيعية.
بعد ذلك التقينا في السهرة التي أعدتها الدكتورة لوتس عبدالكريم احتفالا بذكرى ميلاد الموسيقار الأعظم محمد عبدالوهاب،
وقد أدارها سمير صبري بذكاء ومحبة، حيث دعاني للحديث عن الفنان العبقري، فقلت الكثير، ثم تلقيت تكريمًا طيبًا من الدكتورة لوتس ومن سمير صبري نفسه.
أذكر جيدًا أنه في ذكرى رحيل عبدالحليم حافظ كتبت مقالا طويلا في (اليوم السابع) عن سر عبقرية عبدالحليم، وإذا بي أتلقى منه اتصالا في الثامنة صباحًا مشيدًا بالمقال، طالبًا مني أن نلتقي في الرابعة عصر اليوم في الباخرة إياها لنسجل حلقة عن عبدالحليم لبرنامج (ماسبيرو) الذي كان يقدمه،
وبالفعل ذهبت إليه في الموعد المحدد، ليفاجئني بطلب، وهو أن أحاول التعرف على رجل كان يجلس بصحبته، حيث سألني مازحًا: (هل تعرف هذا الرجل؟ إنه ابن فنان كبير راحل، ألست رسامًا يا ناصر؟.. وريني شطارتك؟).
تفحصت الرجل بحياء، واستعدت في ذاكرتي نجوم السينما الراحلين. بدا لي أن هذا الضيف الغامض في منتصف الخمسينيات من عمره، وعبثا حاولت أن أجد له أصلا مطبوعًا في وجه النجوم السابقين، فلم أفلح،
وأعلنت إخفاقي قائلا له: (يا أستاذ سمير… سامحني… لا أعرف)، فأطلق ضحكة مجلجلة فرحت بها الأسماك السابحة في النهر، وقال: (هذا هو الأستاذ نادر ابن النجم عماد حمدي)،
فأسقط في يدي كما يقول البلغاء القدامي، فالشبه يكاد يكون معدومًا بين الابن وأبيه، فالأستاذ نادر كان أقرب إلى البدانة بشكل لافت، ولكن بعد تدقيق شديد جدًا لمست التشابه المكنون في لفتة هنا أو لمعة عين هناك!
ثم سجلنا الحلقة عن حليم. (لقائي مع سمير صبري حول عبدالحليم حافظ موجود في يوتيوب).
وتتوالى الذكريات، ففي صيف ذلك العام، تلقيت دعوة من مكتبة الأسكندرية للمشاركة في ندوة حول الرواية التاريخية، وما إن وصلت فندق سيسيل بالأسكندرية، برفقة الصديق الأستاذ الكبير مصطفى عبدالله رئيس تحرير أخبار الأدب الأسبق، حتى فوجئت بالنجم سمير صبري في بهو الفندق، الذي سنقيم فيه.
تصافحنا بحرارة صديقين قديمين، واتفقنا على أن يشرفني في ندوتي المزمع إقامتها في السادسة مساء اليوم، ثم أسعد بحضور ندوته التي ستعقب ندوتي مباشرة.
لكن الأستاذ سمير لم يأت في السادسة، ولما انتهت الندوة فوجئت به وقد اعتذر بشدة قائلا لي: (معذرة يا ناصر، فقد راحت عليّ نومة)،
ثم سألني عن ندوتي وعما كنت أتحدث، فقلت له: (عن الرواية التاريخية)، فانبرى قائلا بحماسة كبيرة: (وهل تكلمت عن كفاح طيبة ورادوبيس والعائش في الحقيقة لنجيب محفوظ؟، وهل ذكرت عذراء قريش والمملوك الشارد لجورجي زيدان، وهل أتيت على ذكر رواية بنت قسطنطين لمحمد سعيد العريان؟ وهل وهل)،
فأذهلتني معلوماته عن الرواية وتاريخها، فزاد إعجابي بالرجل وثقافته، ثم جذبني من يدي برفق لحضور ندوته، لكني رجوته أن يسمح لي بالتأخر قليلا لإجراء لقاء سريع مع إذاعة الأسكندرية،
فقال بعشم (لا تتأخر)، وما إن انتهيت حتى أسرعت إلى القاعة، حيث كانت الناقدة الموهوبة الأستاذة ناهد صلاح تدير اللقاء مع النجم الشهير،
وعلى الفور قررت أن أطرح عليه سؤالا حتى ينتبه إلى أنني غدوت من الحاضرين، وبالفعل لاحظ الرجل وجودي وبدأ يوجه لي الكلام طوال الندوةّ!
بعدما انتهى لقاء الجمهور مع سمير صبري اصطحبنا الأستاذ كريم بسيارته في جولة ليلية في شوارع الأسكندرية، حيث جلس سمير بجواره، بينما اتخذت المقعد الخلفي مجلسًا،
ومضت الذكريات تنسال من وجدان النجم الكبير، فراح يشير لي: (هنا كانت تقطن الفتاة الإيطالية التي أحببتها وأنا في الخامسة عشر وقررت تعلم الإيطالية لأتحدث معها)،
وهنا كان مسرح إسماعيل ياسين، وهنا كنت أسير مع عبدالحليم حافظ في أثناء تصوير فيلم (أبي فوق الشجرة)، ثم اختار الرجل مطعمًا ضخمًا جميلا على أطراف الأسكندرية لنتناول عشاءنا،
وببساطة شديدة طلب سمير صبري الجبن الأبيض والخيار فقط. ولما وصلت الأستاذة ناهد وإحدى صديقاتها قرر سمير صبري أن (نلعب كوتشينة)،
وبالتحديد لعبة (الكومي أو البصرة)، واعتذرت ناهد صلاح لأنها لا تعرف هذه اللعبة، فتعجب جدًا النجم المشهور وتساءل باستغراب:
(كيف لا تعرفينها… إنها لعبة بسيطة جدًا)، والتفت نحوي وسألني: (هل تعرفها يا ناصر؟)، فقلت: (طبعًا يا أستاذ سمير).
وهكذا مضى الفنان الكبير يلعب بحماسة غريبة، بعد أن لقن الأستاذة ناهد قواعد اللعبة، لكني انتهزتها فرصة وأخذت أسأله عن ذكرياته مع إسماعيل ياسين،
فقد كان يقطن بجواره بالزمالك كما أخبرني ذات مرة، فأكد لي أنه شاهده مرات قليلة حين كان يقدم المونولوجات في آخر أيامه في كازينوهات شارع الهرم،
لكن في إحدى الليالي، (غادرت شقتي في الواحدة بعد منتصف الليل لشراء علبة سجائر، ففوجئت بابنه ياسين إسماعيل ياسين يبكي عند كشك السجائر ويقول لي بابا مات، ولسنا نملك تكاليف الدفن والجنازة)،
ثم واصل سمير قائلا لي: (على الفور اتصلت بعبدالقادر حاتم وزير الإعلام آنذاك، وشرحت له الموقف، فأمر بأن تتحمل الوزارة التكاليف كلها).
وعدت أسأل سمير صبري ونحن نلعب الكوتشينة: (مَنْ مِن نجوم الصف الاول كان يعد مثقفا حقيقيًا؟)، فتفكر قليلا وقال: (ستذهل يا ناصر… إنه أحمد رمزي، فقد كان قارئا نهمًا بامتياز)، وبالفعل، صدق سمير، إذ أذهلتني تلك المعلومة!
حين بلغت الساعة الثانية بعد منتصف اليل توقفنا عن لعب الكوتشينة وغادرنا المطعم، وكنت في أمس الحاجة إلى النوم، فأنا لست من عشاق السهر،
لكن الأستاذ سمير أصر على أن نتناول (آيس كريم)، وهكذا ذهبنا نحو منطقة بحري حيث محل (جيلاتي عزة)، وقد لاحظت مدى استمتاعه بالآيس كريم في الثالثة صباحًا.
في تلك الجولة الليلية اكتشفت كم يعشق سمير صبري الأسكندرية وناسها وبحرها وشوارعها وتاريخها ورائحتها، ولا عجب في ذلك، فهو ابن هذه المدينة الفريدة المشرقة دومًا،
وما إن وصلنا فندق سيسيل، وبلغنا باب المصعد حتى طرح عليّ سؤالا كالصاعقة: (هل شخصية محمد عبدالقوي الزبال بطل روايتك العاطل له أصل في الحقيقة؟)،
فسألته على الفور: (هل قرأت العاطل؟)، فهزّ رأسه بالإيجاب، وقال وهو يربت كتفي الأيمن بحنو الشقيق الأكبر: (طبعًا… وكم أعجبتني)!
أجل… كان سمير صبري مثقفا كبيرًا بامتياز، كما كان فنانا متفردًا وإنسانا نبيلا بحق.