تقترب الحرب في غزة من نهايتها، صارت الحقائق تضغط على إسرائيل من أجل التعامل بواقعية مع المتغيرات التي فرضتها الأشهر السبع الماضية، والتي كسرت غرور نتنياهو، وأجبرته على التراجع عن حساباته وتهديداته المتغطرسة، وأقنعت وزير الدفاع يوآف جالانت ومسئولي الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بضرورة التوصل إلى صفقة تنهي الحرب، وتسمح باستعادة الأسرى وانسحاب الجيش من غزة، لذلك قال الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطاب الجمعة الماضية، وهو يقدم مقترحات المشروع الإسرائيلي لإيقاف الحرب: “إن ما طرحته إسرائيل اليوم لم يكن ممكنا منذ ثلاثة شهور”.
وقد جاءت هذه المقترحات الإسرائيلية في أعقاب المجزرة الكبرى التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي الأسبوع الماضي في رفح، والمعروفة بـ (حرائق الخيام)، انتقاما من الهزيمة المنكرة التي مني بها على يد المقاومة في جباليا، حينما أرسلت إسرائيل قوة من وحداتها المتقدمة لاستعادة الأسرى، لكن هذه القوة استدرجت إلي فخ نصبته المقاومة، واستطاعت من خلاله أن تقتل فريقا منهم وتأىسر فريقا آخر، مما أصاب قوات الاحتلال بصدمة مذهلة، دفعتها إلى أن تصب جام غضبها على المدنيين النازحين، وتقصف خيامهم بشكل جنوني وحشي، وتقتل الأطفال والنساء والعجائز، وتضيف إلى سجلها الإجرامي فصلا جديدا لاينسى.
وبصرف النظر عن مآلات التفاوض، فإن المقترحات الإسرائيلية التي أعلنها بايدن تؤكد أن المقاومة بلغت من النضج السياسي والإستراتيجي ما يثير الدهشة والإعجاب، لقد حاربت بنبل وشجاعة على قدر استطاعتها، ولم ترفع الراية البيضاء، وتفاوضت فتقدمت وتأخرت ووضعت شروطها، وجاءت المقترحات الإسرائيلية متماهية في كثير من جوانبها مع هذه الشروط، لذلك كان من الطبيعي أن تنظر بإيجابية إلى خطاب بايدن، وهي تعلم مقدما أن نتنياهو لن يتعامل مع الخطاب بمثل هذه الإيجابية، لحسابات تتعلق بمستقبله السياسي، وبالانتخابات الأمريكية القادمة.
لقد فهمت المقاومة طبيعة العقلية الإسرائيلية جيدا، وعرفت كيف تتعامل معها، وأيقنت أن إسرائيل لن تعطي شيئا بالمجان، وأن السلاح هو الحل، فلقد استمرت المفاوضات معها عقودا ولم تتمخض عن خطوة للأمام، في حين أن عملية واحدة يوم 7 أكتوبر حركت العالم كله، وأحدثت تهديدا وجوديا لإسرائيل، باعتراف نتنياهو نفسه، ومن ثم فهي تجيد الحديث بلسان السياسي، ثم تواصل عملها كأن شيئا لم يكن.
ومن وجهة النظر الإسرائيلية فإن أخطر ما فعلته المقاومة منذ السابع من أكتوبر إلى اليوم هو إسقاط نظرية الأمن الإسرائيلي، القائمة على “بناء قوة عسكرية رادعة تكفي لبث اليأس في نفوس العرب، ودفعهم للتنازل عن فلسطين والقبول بوجود إسرائيل، وإلحاق هزائم عسكرية قاسية بهم تقنعهم بعدم جدوى مقاومتها بالسلاح “، لكن طوفان الأقصى نسف قواعد هذه النظرية دفعة واحدة، فلم تردع القوة الإسرائيلية الطاغية فصائل المقاومة عن التفكير في شن هجوم واسع يشمل عشرات المستوطنات والمواقع الإسرائيلية، ولم تتمكن الاستخبارات الإسرائيلية من الحصول على معلومات مسبقة عن الهجوم، ونجح المقاتلون الفلسطينيون في السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي المحتلة للمرة الأولى.
وكان من الطبيعي أن يقض هذا الهجوم شعور الإسرائيليين بالأمان والاستقرار، ويوقظ فيهم هواجس احتمال انهيار دولتهم، فقد سقطت نظرية الأمن الإسرائيلي في ساعات قلائل، وفشلت الحملة الوحشية على غزة ـ رغم ضراوتها ـ في تقويض قدرات المقاومة، ناهيك عن سحقها، وما زالت تصريحات قادة الاحتلال تعكس وقع الصدمة عليهم، وتعكس أزمة الثقة في الجيش وأجهزة الاستخبارات، وتؤكد أنهم بحاجة إلى بناء نظرية أمن جديدة، ترمم “جاذبية إسرائيل”، كي تسترد سمعتها كملاذ آمن لليهود من أنحاء العالم.
في 18 مايو الماضي قالت صحيفة (معاريف) الإسرائيلية في افتتاحيتها: “لقد تبين ضعف إسرائيل في أراضيها لأول مرة، وأنها أصبحت عاجزة عن حماية نفسها من الشمال مع لبنان، ومن الشمال والشرق مع قطاع غزة، وهذا يعني سقوط نظرية الأمن الإسرائيلية”.
وقالت صحيفة (الفايناشيال تايمز) البريطانية في اليوم ذاته: “أصبح من شبه المستحيل الدفاع عن إسرائيل في العالم، فلم يكن من المتوقع أبدا أن يتحرك الطلاب في الجامعات الأمريكية والأوروبية، وتخرج الشعوب في جميع أنحاء العالم للاحتجاج ضدها، وتتزايد كراهية اليهود في أوروبا وأمريكا، وتصبح إسرائيل متهمة أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، ما يعني أن هناك خطرا وجوديا حقيقيا على إسرائيل، وأن أمنها القومي أصيب بهزة عنيفة”.
وفي محاضرة مصورة كشف الدكتور جون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو الأمريكية أن إسرائيل تواجه نقاط ضعف استراتيجية كبيرة في الساحة العالمية حاليا، فلا هي دولة ديمقراطية، ولا هي مع حل الدولتين، ولم يعد بإمكانها الإبقاء على غزة سجنا كبيرا للفلسطينيين، تتحكم فيه بشكل كامل ومباشر، فقد اكتشفت بعد 7 أكتوبر أن حماس قد تدربت جيدا واستطاعت إسقاط مرتكزات أمنها، لذلك كان الرد عنيفا وطائشا، لكنها في النهاية لم تصل إلى ما تطمح إليه، فلا هي دمرت حماس، ولا أخلت غزة، بالعكس وضعت نفسها في مأزق لا تعرف كيف تخرج منه، وإذا أضفنا إلى ذلك إجلاء 60 ألف إسرائيلي من مستوطنات الشمال، ومثلهم من مستوطنات غلاف غزة، بما يعنيه ذلك من تقليص مساحة إسرائيل، وأيضا امتناع مجموعات متزايدة من الضباط والجنود عن الذهاب إلى غزة، واعتراض المتدينين على التجنيد في الجيش، لأدركنا مدى الخطر الذي يهدد أمن ومستقبل إسرائيل.