تتخذ المنافسة في النظام الاقتصادي الرأسمالي بعض الأحيان شكل المزاحمة في العملية الإنتاجية , والمزاحمة في الإنتاج عكس المنافسة التامة فالمنافسة عمل قوة ترتبط بالحرية الاقتصادية التي يوفرها النظام الاقتصادي لجميع الأفراد دون تدخل الدولة
منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، خضعت الزراعة المصرية لنظام استعباد الدين. نشأ هذا النظام نتيجة للطلب المتزايد على القطن، الذي استلزم التوسع في إنتاجه رأسمالاً يتجاوز قدرات صغار المزارعين. حصل هذا النظام على الكثير من الأموال من الخارج. يتعين علينا القول أن نظام العزبة يشكل طورا انتقالياً من مرحلة لتدويل الرأسمال إلى أخرى. فكما كان التركيز ينصب على التوسع في إنتاج المواد الخام في المرحلة السابقة، كان الرأسمال الأجنبي يستثمر في مصر لتوسيع الإنتاج في المرحلة اللاحقة. ويشكل نظام استعباد الدين، فضلاً عما تقدم ذكره، انتقالاً من مرحلة إنتاج السلع غير الرأسمالي السابقة، إلى مرحلة النظام الرأسمالي اللاحقة.
وتعاظمت الديون بقدر تعاظم إنتاج السلع في الريف المصري. أول الأمر أُجبر الفلاحون على السعي للحصول على قرضٍ موسمي يتم سداده عند حصاد القطن، من أجل البقاء على قيد الحياة أثناء نمو القطن، ومن أجل توسيع إنتاجه، الأمر الذي استلزم الإنفاق على أنظمة الري.
وما لبثت القروض الموسمية أن امتدت فصارت قروضاً طويلة الأجل بضمان الأرض. باديء الأمر، تردد تجار القطن، وهم المَصدر المبكر للتمويل، حيال منح قروض الرهن العقاري، نظراً لأن القانون الإسلامي والعثماني يمنع الرهن ويحظر استملاك الأجانب للأرض. مع إنشاء المحاكم المختلطة في عام 1875، أتى قانون الأراضي الأجنبي(الفرنسي في الغالب) ليقنن التعامل مع الأجانب.
ان المزاحمة في الانتاج تؤدي الى سوء استخدام الموارد الاقتصادية وبالتالي تحقيق نمو غير متوازن في القطاعات الاقتصادية على مستوى الاقتصاد الكلي , وقد تتعرض بعض المؤسسات الخاصة الاقل كفاءة الى الافلاس ومغادرة السوق بسبب المزاحمة من قبل المؤسسات الاكثر كفاءة , وهذا ما دعا زيادة الضغط على السلطات التشريعية في جميع البلدان الرأسمالية لإدخال التعديلات اللازمة على كثير من القوانين بالنشاط الاقتصادي , كالقوانين المتعلقة بأشهار الافلاس بالنسبة للمؤسسات التي تعجز عن الايفاء بالتزاماتها لتجنبها الخسارة الكبيرة المترتبة على تصفية موجوداتها . التكاليف نوعين : مباشرة يتحملها المنتج , واخرى غير مباشرة يتحملها المجتمع , والناتجة عن التأثيرات الجانبية الضارة للعمليات الانتاجية في المؤسسات الخاصة , كتلوث البيئة على سبيل المثال مما يؤدي الى تعريض الصحة العامة الى الخطر
وقد أدت هذه الظاهرة إلى ردود أفعال حادة من قبل الرأي العام في البلدان المتقدمة , وكان من نتائج ذلك زيادة التدخل الحكومي لفرض بعض القيود والضوابط التي من شأنها تقليل الاثار الضارة ( تقليل التكاليف الاجتماعية التي يحملها المجتمع ) والناتجة عن العمليات الإنتاجية للمشروعات الخاصة .
كما ان الدولة تعمل على توفير السلع الجماعية ( الخدمات العامة ) لغرض تحسين البيئة مثل أنشاء الحدائق العامة والمنتزهات وأنشاء شبكات الطرق السريعة المواكبة الزيادة في وسائط النقل وغيرها من الخدمات التي تتولى الدولة تقديمها للمواطنين .
تؤدي المزاحمة في الإنتاج إلى القضاء على المؤسسات الصغيرة والضعيفة في السوق وبالتالي بروز مؤسسات ضخمة تتمتع بقوة احتكارية تمكنها من فرض ما ترغب به من أسعار , وقد يؤدي تركز القوة الاقتصادية الناجمة عن توزيع الدخل والثروة إلى تركز القوة السياسية بيد عدد قليل من الأفراد المتنفذين والذين لديهم سيطرة على وسائل الأعلام والتأثير في الجمهور من خلال الدعاية والإعلان لصالح بعض السياسيين الأثرياء , ان الهرم السياسي في المجتمع غالباً ما يتناغم مع التركيبة الاقتصادية .
أحد الاختلافات الكبرى بين نظام العزبة والنظام الرأسمالي، يتمثل في أن المالك أو من يمثله يتحكم في السلطةِ السياسية والقضائية، بحيث تنعدم تقريباً كل إمكانية لوجود علاقات تعاقدية منظمة، أو عقوبات لعدم الوفاء بالتعاقد.
مما لاشك فيه ان هنالك اختلافاً كبيراً في توزيع الدخل بين الأفراد , وهنالك عاملان يساعدان في تعميق هذا التفاوت بالدخول هما وجود الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ونظام الإرث , فضلاً عن السوق الحرة التي تتفاوت فيها أسعار السلع والخدمات حسب ندرتها .
أسفر الجمع بين الإقراض الأجنبي واستعباد الديون عن تعزيز اقتصاد القطن الذي يرتكز على الإنتاج غير الرأسمالي، وليس عن حفز التطور الرأسمالي. مما لا جدال فيه أن نظام استعباد الدين قد خلق شريحة محدودة من العمال المأجورين يمكن الاستعانة بهم في الإنتاج الصناعي، أعني عمال التراحيل. ومع ذلك،
فقد كان للقروض دوراً في تخفيف الضغوط، التي كان من شأنها أن تضطر جماهير الفلاحين إلى الإنصراف النهائي عن مواصلة الإنتاج على نطاق صغير. وعليه، فقد حالت القروض، التي عززت الإنتاج الصغير، دون تطور البروليتاريا الناضجة.
وفضلاً عن كبحها لتبلور القوى العاملة، عملت القروض على لجم الإنتاج الصناعي المحلي (وهو شرط أساسي للتطور الرأسمالي)، وذلك عبر تعزيزها لزراعة القطن. كان الرأسمال الأجنبي مرتبطاً باقتصاد القطن، حيث وُضع المال الأجنبي حصرياً في خدمة تلك المشاريع التي وسعت من إنتاج القطن، وليس التي تتوسع على أساس أعلى ربحية، ناهيك بالصناعة. وإذا التجأنا إلى المفاهيم الماركسية، فقد كان المال المُقرض في مصر خلال هذه الحقبة هو الرأسمال الربوي ،
وليس الإئتمان الرأسمالي. فبينما يُستخدم الثاني في تعزيز الإنتاج الرأسمالي ويمتد حيثما وُجدت معدلات ربح عالية، يعمل الرأسمال الربوي على تعزيز نظام الإنتاج اللارأسمالي المقترن به. يُضاعف الرأسمال الربوي من بؤس المنتجين في ظل النظام القديم عبر اغراقهم في الديون، من دون أن يحول علائق الإنتاج إلى نظامٍ جديدٍ يدشن لإنتاجية أعلى. بعد زهاء قرن من التوسع في تصدير القطن، والإعتماد على الواردات الأوربية كمصدرٍ للسلع المُصنّعة، تعرض الإقتصاد المصري للتغيّر بعد الحرب العالمية الأولى. تراجعت صادرت القطن، وحل الإنتاج الصناعي المحلي مكان استيراد السلع الإستهلاكية. تطورت الرأسمالية في الصناعة والزراعة على امتداد السنوات الستين السابقة. الفرضية الأساسية لهذه الدراسة، تتقوم في أن الرأسمالية المصرية قد تطورت بفعل الرأسمال الأجنبي.
بالإضافة إلى هذا، مهّد الرأسمال الأجنبي السبيل أمام الصناعة المحلية على نحو ٍ غير مباشر. لقد خلق اقتصاد القطن، الذي كان نتاجاً لطلب الرأسمال الأجنبي على المواد الخام الصناعية، شريحةً من العمال الأجراء المحتملين، عن طريق تجريد بعض الفلاحين من كل حقٍ في الأرض، مما اضطرهم بالتالي إلى العمل المأجور. كما أرسى اقتصاد القطن الأساس للأفكار البرجوازية في مصر، وفي عدادها الأفكار القومية، التي لعبت دوراً حاسماً في الدعم المحلي للنمو الصناعي. النقطة الجوهرية في هذا القسم تتعلق لا بالدور غير المباشر والأيديولوجي للرأسمال الأجنبي، وإنما تتعلق بدوره الإقتصادي المباشر والمحدد.
كان المصريون يسيطرون، نظرياً، على كل الشركات المحلية، بما فيها تلك التي تتضمن مساهمة أجنبية. في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين تبلورت بالتدريج قوانين صارمة ترمي إلى تمصير الشركات. نصّ قانون 1947 على ضرورة أن يكون 51% من الرأسمال، و 40% من مجلس الإدارة، و 75% من الموظفين بأجر، و 90% من العمال، من المصريين. لكن كثيرا ما كان يُضرب بالقوانين عرض الحائط أو أنها كانت تطاع ظاهريا ليس إلا. يوضح جريتلي الدور التافه الذي لعبه السكان المحليين في الإدارة اليومية: “كثيراً ما يشاع أن المصالح الأجنبية المهيمنة تقبض على زمام السلطة بينما المصريون يقبعون في المجلس، كرجال القش، ممتثلين على مضض لنص القانون “. إجمالاً، كان الأجانب يملكون ويديرون الصناعة المصرية عموما.
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا