القدس – كل القدس – حرم مقدس، كما أن مكة – كل مكة – حرم مقدس، ولقد أطلق القرآن الكريم علي هذه المدينة المقدسة مصطلح ( المسجد ) قبل الفتح الإسلامي لها، فهي (مسجد ) كما أن مكة (مسجد)
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
فالإسراء قد حدث من مكة إلي القدس ، وهو قد أقام رباطاً بين هذين الحرمين المقدسين، وهو آية من آيات الله، سبحانه وتعالي، وهو رباط يجسد وحدة الدين الإلهي عبر كل النبوات و الرسالات ، فالمسجد الحرام، هو أول بيت وضع للناس في الأرض، والذي أصبح قبلة أمة الرسالة الخاتمة، عندما يربط الله (بالإسراء ) بينه وبين القدس – قبلة النبوات السابقة – إنما يرمز بذلك إلي وحدة الدين الإلهي، إلي اكتماله بالإسلام، وإلي تضّمن العقيدة الإسلامية الإيمان بكل الرسل والرسالات من آدم إلي محمد عليهم الصلاة و السلام ، لا نفرق بين أحد من رسله.
و لقد عاملها المسلمون – مدينة القدس – كما شاء الله لها – معاملة الحرم المقدس، وتجلي هذا الاعتقاد الإسلامي في أحداث الفتوح، فكما أن مكة حرم مقدس، ولذلك لا يحل فيها القتال، كذلك عامل الفاتحون المسلمون القدس، فحاصرها جيش المسلمين بقيادة أبي عبد الله الجراح، حتى رغب أهلها في الصلح، دونما قتال ؛ لأنها حرم لا يحل فيها القتال ؛ بل لقد ظلت هذه الحرمة عقيدة إسلامية مرعية عبر عصور التاريخ. فعلي الرغم من أن الصليبين الذين اقتحموا القدس عنوة (492 هـ – 1099 هـ ) قد أبادوا جميع من بها من المسلمين، عندما أقاموا مجزرة دامت سبعة أيام، لم يسلم من الذبح فيها حتى الذين احتموا بالمسجد الأقصى ، فذبحهم الصليبيون، حتى جرت الدماء في المسجد كالنهر، وسبحت فيه خيول الصليبين حتى لُجُم هذه الخيول!. علي الرغم من ذلك عامل صلاح الدين الأيوبي (532 هـ 589 هـ / 1137 م – 1193 م ) هذه المدينة المقدسة معاملة الحرم الذي لا يجوز ولا يحل فيه القتال ، فحاصرها (583 – 1187 م ) حتى صالح الصليبين فيها علي التسليم، فهي لست مجرد مدينة، وإنما هي حرم، وبعبارة صلاح الدين : ( إنها إرثنا وإرث كل أصحاب الديانات، فيها تجتمع الملائكة، ومنها عرج نبينا إلي السماء ).
و لتقديس الإسلام لهذه المدينة، باعتبارها مسجداً وحرماً وقبلة النبوات السابقة. ولأن الإسلام وحده الذي جعل الإيمان بالنبوات و الرسالات السابقة جزء من عقيدته،
تميزت السلطة الإسلامية عبر تاريخ السيادة السياسية للدولة الإسلامية علي مدينة القدس، بإشاعة قدسيتها لكل أصحاب المقدسات من أبناء الديانات السماوية، فكانت الدولة الإسلامية وحدها دون سواها هي المؤتمنة و الأمينة علي المقدسات غير الإسلامية في هذا الحرم القدسي الشريف، بينما كان العكس – أي الاحتكار – هو موقف كل السلطات غير الإسلامية التي استولت علي مدينة القدس، فالرمان قد احتكروها لأنفسهم، دون اليهود و النصارى، في حقبة الوثنية الرومانية، وبعد أن دخلوا في النصرانية احتكروها دون اليهود.
وصنع هذا الاحتكار أيضا الصليبيون، الذين احتلوها تسعين سنة، فبعد أن ذبحوا اليهود مع المسلمين، احتكروا مقدسات المدينة، حتى أنهم حولوا المسجد الأقصى إلي كنيسة لاتينية، وإلي اصطبل لخيول فرسان الإقطاع اللاتن ! . ونفس الاحتكار يصنعه الصهاينة اليوم، عندما يطاردون الوجود العربي فيها – إسلاميا ونصرانيّا- ويهددون المقدسات بالاستيلاء والهدم والتحويل! …….. وللحديث بقية