لقد كانت الهجرة النبوية المباركة علامة فارقة في التاريخ الإسلامي، وحدَّاً فاصلاً بين مرحلتين فى تاريخ الدعوة المرحلة المكية بما حملته من إيذاء واضطهاد وعنت وظلم للمسلمين، والمرحلة المدنية بما أشرقت به من الاطمئنان، والاستقرار، والأمن والأمان ، والإنصاف، ببناء الدولة الإسلامية.
تلك الهجرة التي تجلَّى فيها صدقُ الإيمان، وسما فيها شرف الفداء والتضحية، والتي فرَّقت بين الحق والباطل، فأرستْ دعائم العدالة، وأعلَتْ صروح الحق ، فنَضَّرَت به وجه الأرض، وعدَّلتْ مجرى الحياة.
وليس هناك دليل أنصع وأوضح على أهمية الهجرة النبوية من اتخاذ الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه لها كبداية للتقويم الهجري؛ لأنها اللبنة الأولى، وحجر الأساس لإرساء قواعد الدولة الإسلامية الوليدة آنئذ ، المبنية على التسامح والوسطية ، والقائمة على العدل والمساواة ؛ لأن الهدف من الهجرة هو تأسيس دولة الإسلام على قواعد راسخة، وأسس متينة، وأرض صلبة، بواسطة أناس فتحوا قلوبهم قبل بيوتهم؛ ليحتضنوا إخوانهم المهاجرين، مضحين بالغالي والنفيس من أجل نصرة هذه الدعوة المباركة.
وكما أن الحق جل شأنه كان يمكن أن يأمر السماء فتمطر وتنطفئ نار القوم الذين أضرموها لخليله إبراهيم عليه السلام ، ولكن معجزة إبراهيم عليه السلام ليست أن ينجو من النار.. فلو أراد الله أن ينجيه من النار ما مكنهم من القاء القبض عليه.. من الأساس
أو لنزلت الأمطار لتطفئ النار.. ولكن الله شاء أن تظل النار ناراً متأججة.. محرقة.. مدمرة.. وأن يؤخذ إبراهيم عليه السلام عياناً أمام كل الناس.. ويرمى في النار.. وهنا يعطل الحق سبحانه بقدرته ناموس إحراقها؛ ليرتفع الحق ويسمو العمل؛ فلو أن إبراهيم نجا بأن هرب مثلاً.. لقالوا لو أمسكناه لأحرقناه.. ولو نزلت الأمطار لقالوا لو لم تنزل الأمطار لأحرقناه.. ولكن إبراهيم عليه السلام لم يهرب… والأمطار لم تنزل..والنار متأججة… ولكنها لم تحرق إبراهيم.. فكأن آلهتهم التي كانوا يزعمون أنهم ينتقمون لها.. ليست آلهة كما يزعمون… إنما هي أصنام لا تضر ولا تنفع.. وكل شيء في هذا الكون خاضع لمشيئة الله.. وإرادة الله.. عندما يقول الحق جل شأنه (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) تتعطل خاصية الاحراق وتقف قوانين الكون عاجزة أمام قدرة الله.. وتقف آلهتهم عاجزة على أن تقول: يا نار احرقي من حطمنا.. بالمقابل كان من الممكن أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام بكلمة (كن) وكان من الممكن أن يرسل الحق سبحانه البراق مرة أخرى، فيحمل حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بطرفة عين، ويجنبه ويلات الهجرة، ولكن ذلك لم يحدث، فلا بد من بذل الجهد البشري القائم على التخطيط والأخذ بالأسباب؛ ولكي يتعلم الناس هذه السنة الكونية التي لا تنصلح الحياة إلا بها، فإن الأخذ بالأسباب عبادةٌ واجبةٌ، وسُنَّة كونية، وشريعة ربانية، يجب الأخذ بها، مع ضرورة اليقين في الله تعالىٰ، وعدم الاعتقاد بأن الأسباب تؤَثِّر بذاتها؛ قال تعالىٰ في سورة النحل : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وديننا هو دين التوكل لا التواكل، ودين العمل والأمل، لا التواني والكسل.
وكان سيدُنا محمد ﷺ خاتمُ الأنبياء مثلًا أعلىٰ في الأخذ بالأسباب، فقد خطط للهجرة تخطيطاً دقيقاً، وأخذ بالحيطَة، واستعان بأهل الخبرة، ودَبَّر الأمور بدقة، رغم يقينه أن الله تعالىٰ لا ولن يخذله، وأنه يؤيده وينصره؛ وفي هذا كله درس لنا بوجوب الأخذ بالأسباب، وفي سنن الترمذي أن رَسُولُ اللهِ ﷺ قال : «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَىٰ اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً»
وهناك فرق بين التوكل والتواكل ، فقد أجمع جمهورعلماء المسلمين أن التوكل الصحيح، إنما يكون مع الأخذ بالأسباب، وبدونه تكون دعوى التوكل جهلاً بالشرع وفساداً في العقل، يقول الخليفة الراشدي الثاني عمر رضي الله عنه: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة.
والهجرة المباركة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة لم تكن فراراً وهروباً من التعذيب والأذى والاضطهاد ، وإلا لما صبر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ثلاثة عشر عاماً على ذلك ، وإنما كان الباعث الأساسي للهجرة هو تبيلغ الرسالة المحمدية، ونشر تعاليم الإسلام في كل بقاع الأرض، بعد أن أبت قريش أن تنال هذا الشرف، حيث ضيَّقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخاصة العبيد والمستضعفين بكل الوسائل، وشتى الطرائق، ومختلِف الوسائل، ومنعوه من وظيفة إبلاغ رسالة ربه ؛ فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ ـ أي موسم الحج ـ، فَيَقُولُ: “أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشاً قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي”
لقد كانت الهجرة لتحويل مجرى التاريخ، ووضع أسس البناء الإسلامي الشامخ؛ ولذلك كانت أكبر أحداث التاريخ البشري قاطبة ، من حيث التفاعلات التي تولدت عنها، والأحداث التي تعاقبت بعدها، وترتبت عليها؛ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ مرده كله إلى الهجرة النبوية المباركة ، التي لولاها لما شمخ الإسلام وسما وانتشر في مختلف أرجاء العالم ، ولولا نبي الإسلام صلى الله الله عليه وسلم لظلت البشرية قاطبة ترتع في ظلام دامس ، وتحيا تحت نير الجهل والعبودية؛ فصاحب الهجرة المباركة، حبيبنا ونبينا ورسولنا وقرة أعيننا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو النور الذي بدَّد الله به ظلمات الشكوك والأوهام .
وهذه الليلة الفارقة هي ليلة الهجرة النبوية المباركة تظهر قيمتها وتبدو مكانتها وتتعزز منزلتها حين نقرأ بتمعن مادار بين التابعي الجليل ضبة بن محصن العنزي وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، حيث كان الصحابي الجـلـيـل أبـو مـوسى الأشـعـري رضي لله عنه، والياً على البصرة في عهد أمير المؤمنين الخليفة الراشدي الثاني عـمـر بن الخـطاب رضي الله عـنه، وكان الـولاة في ذلـك الـوقــت هـم الـذين يصـلـون بالناس، ويخـطـبـون في الجـمـع في مـراكـز ولاياتهـم ، كـما كان الخـلفـاء يخـطـبـون في عاصـمة الخـلافة.
فكان أبـو مـوسى يستهل خطبته بحمد الله تعالى والثـناء عـليه، ثـم يصلي عـلى النبي صلى الله عـليه وسـلـم، ثـم يثني على أمـير الـمـؤمنين عـمـر بن الخـطاب رضي الله عـنه، ويـعـد مآثـره ومـواقـفـه وسـوابـقـه، وما قـدمه ويقـدمه للإسلام والمسلـمـين ، متجاهلاً أبا بكـر الصديق رضي الله عنه.
فأغضب ذلك رجلاً من القوم اسمه ضـبة بن محـصـن العـنـزي، وقال له: أيـن أنـت مـن صاحـبه يقـصـد أبا بكـر رضي الله عنه ، لا تـذكـره ولاتذكر فـضله ، وهـو خـير مـنـك ومـنه.
ذهـل أبـو مـوسى الأشـعـري مـن مـوقـف ضـبة أمام الناس ، ولـم يجـد إلا أن يكـتب إلى أمـير الـمـؤمنيـن عـمـر رضي الله عنه يشـكـو ضـبة عـلى أنه يـشغـب عـليه ويعـترض عـليه في خـطـبته، وهـو يعـلـم أن أمـير الـمؤمنين عـمـر رضي الله عنه لا يتهاون مـع من يخرج عن الجماعة،
فبعـث أمـير الـمـؤمنيـن عـمـر رضي الله عـنه يأمره أن يشخـص إلـيه ضـبة، أبلـغ أبـو مـوسى الأشـعـري ضـبة بـذلـك، فـلم يتـمـرد ولم يـتردد وإنـما ركـب راحـلته منـطـلـقاً مـن البـصـرة إلى الـمـديـنة الـمنـورة اسـتجـابة لأمـر أمـير الـمـؤمنيـن عمر رضي الله الله عـنه.
وصل ضبة عـلى راحـلته بعـد رحـلة شـاقـة إلى الـمـدينة الـمـنـورة، وما إن وصلها حتى اتجـه إلى بـيـت أمـير الـمـؤمنين عـمـر رضي الله عنه، فـقـرع عـليه الـبـاب، وخـرج عـمـر بن الخـطاب، وسـأله: مـن أنـت؟.
قال الـرجـل: أنا ضـبة بن مـحـصـن العـنـزي، فـقال له عـمـر: لا مـرحـباً ولا أهـلاً بـك، فـقال الـرجــل: أما الترحاب فـمـن الله لا منك ، وأما الأهـل فـلا أهـل لي هنا في المدينة ، ولكـن بِمَ اسـتـحـقـقـتُ إشـخاصي مـن البصرة يا عـمـر، بـلا ذنـب أذنبـته، ولا جـرم ارتكبته.
قال عـمـر: ما الـذي شـجـر بيـنـك وبين عـاملي أبي مـوسى الأشـعـري؟ قال ضـبة آه: الآن أخـبرك إنـه كان إذا خـطـبـنا حـمد الله وأثـنى عـليه، ثـم يصلي عـلى النبي صلى الله عـليه وسـلم، ثـم ذكـرك وأخـذ يـدعـو لـك، فـقـلـت له: وأين أنـت مـن صاحـبه تفـضله عـليه، فـكـتب إلـيـك يشـكـوني.
وعلى الفور تـفـجــرت دمـوع أمـير الـمـؤمـنـين عـمـر بن الخـطاب رضي الله عـنـه، واحـتـوى ضـبة بـذراعـيه، وأخـذ يـقـول لـه: أنـت والله أو فـق مـنه وأرشــد، أنـت والله أوفـق مـنه وأرشـد ، فـهــل أنـت غـافـر لي ذنبي غـفـر الله لـك.
قال ضـبة: غـفـر الله لك يا أمـير الـمـؤمنيـن، لـم يـتـوانَ عـمـر بن الخـطاب أن دعـا الصلاة جـامعـة: واجـتـمع الناس في المسجـد، فـصـعـد أمـير الـمـؤمنين عـمر بن الخـطاب رضي الله عنه المـنبر وخـطـبهـم قـائـلاً: ألا إن أقـواماً يفـضـلـونـني عـلى أبي بكـر، وأنا أخـبركـم عـني وعـن أبي بـكـر، ألا إن لـيـلـة لأبي بكـر، ويـوماً خــير مـن عمر وآل عمر، ألا أخـبركـم بليلـته ويـومه؟ قالـوا : بلى يا أميـر الـمـؤمنيـن.
قال: أما لـيـلـته فـلـيلة هـاجـر رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم، ومعه أبـو بكـر رضي الله عنه ، فـجـعـل مـرة يمشي أمامه، ومـرة يمشي خـلـفه، وتارة يمشي عـن يـمـيـنه، وأخـرى عـن يساره، فـقـال له رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم: ما هـذا يا أبا بكـر؟ ما أعـرف هـذا مـن فـعـلـك؟ فـقـال أبـو بكـر رضي الله عـنه: يا رسـول الله إني أذكـر الـرصـد فـأكـون أمامـك، وأذكـر الطـلـب فأكـون خـلفـك ، ومـرة عـن يميـنـك، ومـرة عـن شـمالك لا آمـن عـليـك، ولـما وصلا غـار ثـور وأرادا أن يـدخـلاه قال أبـو بكـر: لا والــذي بعـثـك بالحـق لا تـدخـله حتى اسـتبـرأه لـك، فإن كان به شيء نـزل بي دونـك.
ودخـل أبـو بكـررضي الله عنه، ولما لم يجـد به شـيئاً ، فدخلا الغار، وجـاء الطـلب، ووصـل الـمطـاردون إلى الـغـار، فجـعـلـت دمـوع أبي بكـر تـتحـدر عـلى خـديه، فـقال له رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم: يا أبا بكـر لا تحـزن إن الله مـعـنا ، فأنـزل الله السكينة والطـمأنينة عـلى أبي بكـر رضي الله عنه، يقـول الحق جل شأنه في محكم تنزيله في سورة التوبة :(إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
ونحن نذهب إلى ماذهب إليه الخليفة الراشدي الثاني عمر رضي الله عنه ، وما ذهب إليه حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن المقصود بقوله سبحانه (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) : أنزل الله السكينة على الصاحب أبي بكر رضي الله عنه، ليأمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسكن جأشه، ويذهب روعه؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تزل السكينة معه وحالَّة عليه ، حيث راح يهدئ من رَوْع أبي بكر رضي الله عنه: (ِإذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
ولايسعنا هنا ونحن نختم مقالنا بذكر اليوم الذي تحدَّث عنه الخليفة الراشدي عمر رضي الله عنه، حين قال: وأما يومه: فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت بعض قبائل العرب، فقال بعضهم: نصلي ولانزكي، وقال بعضهم نزكي ولا نصلي؛ فأتيته ولا آلوه نصحاً، فقلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس، وأرفق بهم
فقال لي: أجبار في الجاهلية، وخوار في الإسلام؟! قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وارتفع الوحي، والله لو منعوني عقالاً كانوا يعطونه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لقاتلتهم عليه.
فكان والله رشيد الأمر، ثم كتب إلى أبي موسى يلومه.
وبهذه المناسبة العطرة نهنئ المسلمين في أرجاء المعمورة بالهجرة النبوية المباركة، سائلين المولى سبحانه أن نكون ممن يسيرون على خطى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في أموره كلها ، والله نسأل أن ينصر الإسلام ويعز المسلمين.