استَقرأتُ السيرةِ النبويةِ من مطالعها إلى خواتمها عن كثَب ، ونهلت من ريحها مغانم روحية وتربوية وتاريخية من بطون الكُتب ، واستشرَفتُ من عبقها بأندى الوجوه رجالاً ونساءً كأنهم سبائك ذهب ، وتضوعت لها نفسي ففي محرابها لا سغَبٌ ولا نَصَب ، ولما كنتُ حفياً عنها ، لم تعزُب عني شاردة ولا واردة إلا وأحصيتها بمرصَدٍ بلاغيٍ بَالغ الأدب ، وهأنذَا أجدد العهد والوعد لأقطف من ثمار السيرة الميمونة فلا غرُو ولا عَجَب ،،،
أتحدث هاهنا عن حادثة الهجرة النبوية ، بقلم لوذعي قسيب ، وقالب أدبي قشيب ، ولعمري سأكتب عن حادثة الهجرة بمذاق مشربي سردي غير تقليدي ،
وحبذا البوء بارتباط الهجرة النبوية بخلتين اثنتين ، نهاية مرحلة الصبر المكي ، وبداية ملحمة النصر المدني ، وسآتيكم من كل هذه ومن جل هذه بقبس منير ،،،
تمخضت الهجرة النبوية ، عن أعظم الدروس والعبر في كل التاريخ حقا ،
ففي كل العهد المكي ، ما راقت للنبي وصحابته راحة ولا هدنة من المشركين ، وامتزجت آلامهم وأوجاعهم بعزتهم وصبرهم ، وكانت همتهم دوماً قعساء ، لا تعرف أبداً الانزواء ،…
طال التنكيل بالنبي والصحابة طيلة العهد المكي ، فطال صبرهم على عدو الله وعدوهم ، فلما حانت لحظة الهجرة ، ترجم الصبر الطويل إلى نصر عزيز غير مجذوذ ، وهذه أعظم ملامح دروس الهجرة النبوية ،،،
ضرب النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ، أعظم الضروب في الصبر والمثابرة ، سواء الذين كانوا معه بمكة ، أو الذين فروا بدينهم إلى الحبشة ،،،
وايم الله إن ملمحاً واحداً من ملامح الصبر والرباط ، الذي جسده النبي والصحابة ، ليسطر على جبين الإنسانية بحروف من نور ،،،
أُوذي النبي ومن معه في دار الندوة ، والدعوة حبيسة سرية لثلاث سنين ، وحوصروا في شعب أبي طالب بلا طعام ولا شراب لثلاث سنين ، وعُذبوا في جهر الدعوة عشر سنين ، وجعلُوا أجسادهم قرابين لله ، فقُتلا ياسر وسمية قسراً ، ونُكل بعمار وبلال أشد تنكيلا ، ورمي رسول الله وزيد بن حارثة بالنبال والحجارة من سفهاء ثقيف في رحلة الطائف حمقاً ،،،
أُوذي النبيُ في دار الأرقم فصبر ، وحُوصر في شعب أبي طالب فدعا ربه ، وطُرد من كل مكة مأسوف عليه فأقام دولة ،،،
بدأت بوادر نصر رسولَ اللّه والصحابة ، منذ أن تعثر خيل سُراقةَ بن مالك المُدلجي ، مبعوث قريش في تتبع أثر رسول الله يوم الهجرة ، فلما أصيب بالخزي أمام رسول الله ، طلب أن يدعو له ، فقال له صلى الله عليه وسلم ( كيف بكَ إذا لبستَ سُواري كسرى ومنطقته وتاجه ، فقال سراقه كسرى بن هُرمز ؟ فقال صلى الله عليه وسلم نعم ، فتحققت هذه البُشرى المباركة في خلافة عمر رضي الله عنه ، على إثر فتح المدائن بقيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ،،،
اتجه النبي القائد خلف صحابته إلى المدينة ، بعد أن اطمئن فؤاده عليهم ،،،
خرجوا من مكة وهي أحب البلاد إليهم ، مستقرهم وحنينهم وأنينهم ، ومولدهم وطفولتهم وصباهم وشبابهم ، إلى مكان آخر ما وطأت إليه أقدامهم من قبل ،،،
ذهبوا إلى المدينة مُكرهين مطرودين ، ولكنهم لإرادة السماء طائعين مُقبلين ،،،
وكانت الهجرة للمدينة نصراً عزيزاً —
كانت الهجرة إلى المدينة إيذاناً بتحول كبير في مجرى العصر النُبوي ، بل في جغرافية الأرض آنذاك ، بل إن شئت فقل ، في مسار التاريخ كله ،،،
فعلى أرض المدينة المنورة ، شِيدت أعظم حضارة إسلامية إنسانية ، لبنات راسخات راسيات فوق لبنات ،،،
انصهر المجتمع المكي من الصحابة مع المجتمع المدني من الصحابة في لُحمة واحدة وبوتقة دائمة ، تآلف المهاجرون والأنصار أيما ائتلاف ، وتحابا وتصاهرا ، وتآثرا في حب بعضهما بعضاً ،،،
وسُبحان الذي ألف بين المهاجرين والأنصار ، وصدق سبحانه ( وألفَ بَينَ قُلُوبِهم لَو أنفَقتَ مَا فِي الأَرضِ جَميعاً مَا ألَفتَ بَينَ قُلُوبهِم ولَكنَ اللّهَ ألفَ بَينَهُم إنَهُ عَزيزٌ حَكِيم ) الأنفال 63
طرد النبي من مكة فأسس صرحاً فريداً لا مسبوق ولا ملحوق ،،،
فنزل فيه وأصحابه قرآنٌ يُتلى إلى يوم الدين ( والذِينَ هَاجَرُوا في اللّهِ مِن بَعدِ مَا ظُلمُوا، لنُبَوئَنَهُم في الدُنيَا حَسَنةً ، وَلأَجرُ الآخِرةِ أكبَرُ لَو كَانُوا يَعلمُون ) النحل 41
طُرد النبي من مكة حيث الدار والذكريات والعشيرة ، فدانت له الأرض من مشرقها إلى مغربها في عشر سنوات فقط ، هي كل عمره الحقيقي في المدينة حتى لقي ربه ،،،
تأخر النصر ولكن لم تُهدر جهود النبي وصحابته سُدى ،،،
أتدرون أعظم دروس الهجرة النبوية ؟ إنها إرادة الصمود المُثلى والصبر ، فمن بعد الصبر سيأتي النصر ، شريطة الإيمان بالله حق الإيمان ، فإن النصر قادم لا محالة ، مهما طال الكرب ، ولتكن هذه عقيدة كل فرد مُسلم ، بل كل أسرة وجماعة وأمة ، ولنا في رسول الله والصحابة الأسوة الحسنة —