أدى التطور التقني عبر السماوات المنفتحة إلى تدفق صور من الأفكار والممارسات والعادات بين المجتمعات؛ لتؤثر على أفراد قد لا يمتلكون مقومات فرز الغث من الثمين، ولا التفرقة بين الصحيح وغير القويم، وهذا ما جعل للقيم دورًا في ضبط السلوك ومنظم للحياة؛ ليستطيع الإنسان أن يحدث تغيرًا ملموسًا فيما حوله بشكلٍ إيجابي؛ فيواجه التحديات، ويحل المشكلات، ويتغلب على الأزمات.
وفي هذا الخضم تُساهم منابر الأوقاف بصفةٍ دوريةٍ ومنتظمةٍ ومخططةٍ في صقل الجانب الوجداني لدى الفرد؛ ليصبح قادر في ضوء معرفة صحيحة على تطبيق قناعاته النورانية في صورة سلوكياتٍ تحقق المنشود منها؛ حيث يزداد محبة الإنسان لأخيه؛ فنرى منه ملامح الإيثار، والإقدام نحو ضروب الخير دون انتظار مقابل؛ فتعم البركة، ويسود الأمان، ويصبح الاستقرار القائم على التكافل والتراحم السمة الغالبة في المجتمع.
إن ما تتناوله موضوعات الوعظ والإرشاد والتذكرة والإيضاح عبر منابر الأوقاف تنسدل من صحيح قيم تساعد في تنظيم الأمور الحياتية والعقدية، وتعضد المعاني الدالة على أفعال وممارسات الخير وسبل السعي تجاهه؛ فيرصد الإنسان بسهولة الجميل والحسن من القول والأداء، ويتفهم صور القبح وما يرتبط به من سلوك غير قويم وقول غير حميد، ومن ثم يفند الفرد بين ما يجوز وما لا يجوز، وفي ضوء ذلك يتبنى من المعايير ما يجعله يتحكم في أفعاله وأقواله.
وما يتلقفه الفرد من أفكار، وما يسمعه من لغات تتضمن أحاديثًا متنوعةً، وما يلاحظه من سلوك، يحتاج ذلك كله إلى نسق من القيم العقدية والمجتمعية التي تعينه على فلترة ما يتناسب ويتلاءم مع المعتقد الوسطي المعتدل، ويتآلف مع ما يتقبله المجتمع الذي تشرب قيمه من تدينه والتزامه، مما جعله محافظًا على عاداته التي تمخضت عن ثقافته القائمة على أصول ومبادئ راسخة في غور تاريخه المجيد الكائن في حضارته وجغرافيته التي يتغنى بها العالم قاطبة.
وتهتم منابر الأوقاف بالقضايا والموضوعات التي تشغل الرأي العام في المقام الأول؛ حيث إن الغاية الرئيسة تكمن في تقوية الجانب العقدي بما يؤدي إلى تنمية كافة القيم الحميدة التي يتحلى بها الإنسان؛ ليستطيع أن يحافظ على ثقافته ولا ينجرف مع الثقافات المستوردة؛ فيصبح قابلًا للقيم المنسدلة منها؛ فيشوب وعيه بقناعات ومفاهيم لا تتناغم مع طبيعة النسيج المجتمعي الذي تربى على البر، والفضيلة، والحسنى، والإحسان.
وتتخذ المنابر التعزيز باعتباره مقويًا للسلوك المرغوب فيه؛ فالقيمة تعتمد على درجة المعتقد، والشعور جزءً أصيلًا منها، والفكر محفزًا للتصرف وموجهًا للاختيار ومنظمًا للممارسات والأداءات، ومترجمة للأقوال؛ فما أحوج شباب مجتمعنا المصري لاسترجاع صحيح قيم تحفظ عليه معتقده وتراثه؛ فلا يهتز، ولا يميل، ولا ينجرف، ولا يتحول لقيم مستوردة، أو لعادات تخالف ما تربينا عليه، وجنينا ثماره، وتنعمنا نتاجه.
ما أمس حاجتنا إلى أن نخرج جيلًا من حالة الرغبة تجاه التحول بصورةٍ كليةٍ أو جزئيةٍ لثقافاتٍ تلبي احتياجاته؛ لكنها تقضي على كينونة طبيعته الإنسانية؛ فتستبدلها بقيم تقوم على النفعية المطلقة؛ فتصبح المادية كل شيء، والوجدان النقي لا شيء، وهذا مكمن الخطورة؛ فنريد ثمرات التقدم دون التفريط بنسقنا القيمي الذي يحافظ على قوة النسيج المجتمعي دون مواربةٍ، ويدعم فلسفة الاصطفاف التي تحقق ماهية الأمن القومي بأبعاده المختلفة.
ومنابرنا النشطة التي تُعد المنارة والاستنارة في عصرنا الحالي تؤدي دورًا مهمًا؛ حيث تعمل على فك التشابك بين قيمنا الأصيلة والقيم الدخيلة، أو المستوردة، أو الوافدة؛ فيستفيق الإنسان وتثار حفيظته تجاه تحقيق التماسك الأسرى وحفظ الأنساب وصيانة الأعراض والدفاع عن الأوطان؛ فيعدو التمرد والتفكك والتشرذم منا ومن أجيالنا ببعيد؛ فتحافظ المرأة على نفسها، وتصون عفتها، وتدحر صور محاولات النيل منها، ويتبنى أولادنا خلق الصدق، والأمانة، والشهامة، والإقدام، وحب العمل واتقانه، ويتخلى أبناؤنا عن الكذب، والغش، والإهمال، والتقاعس، واللامبالاة، وسائر ما يضعف العزيمة ويحبط الهمة.
وحري بالذكر أن تعضيد النسق القيمي عبر منابر الأوقاف النشطة يحدث التناغم المرغوب فيه بين القول والفعل؛ فهذا ثمرة نمو القيم ونضج فقهها؛ فما نصرح به نؤكده بالعمل، وما نعلن عنه نجتهد في تحقيقه، وما نعتقده يؤكد في نفوسنا ماهية الولاء والانتماء لبلاد تعشقها الوجدان وتقبع في الأفئدة دون وجلٍ، ونثمن جهود وزير الأوقاف الدكتور أسامة الأزهري صاحب الهمة والنشاط والفكر المستنير الذي تبنى استراتيجية بناء الإنسان في ضوء نسق قيمي قويم يرسخ لمحبة الوطن وعشق ترابه وبذل ما في الوسع لرفعة شأنه وعلو رايته.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر