ينظر الإنسان في باكورة تعليمه إلى أستاذه نظرة تحمل في طياتها العديد من المعاني؛ فيرى فيه ظل الاحتواء، ومشعل النور الذي يضيء له الطريق المظلم، ويشعر معه بالأمان الذي يترجم في عطاء مستدام لا ينضب من كثرة طلب أو نيل حاجة، يتطلع لشخصيته فيحاول أن يحاكيها بأدب جمّ واحترام، يراقب سلوكه فيرصد محامد تعد معيارًا حاكمًا لجل تصرفاته؛ إذ يشاهد القدوة بأم عينه في مواقف وبين ثنايا قضايا تستوجب الرأي السديد والرؤى التي تحمل عبق التفاؤل والأمل والتطلع لمستقبل يحمل في طياته الخير الوفير.
وأثر بناء شخصية الإنسان من خلال أستاذه تبدو ملامحها فيما يقوم به المعلم من ممارسات من شأنها أن تغير في سلوكيات غير مرغوب فيها لأخرى حميدة، وهذه فلسفة البناء الرئيسة التي يعتمد عليها في بيئة تعليمية منضبطة تقوم على خبرات متكاملة لا تنفك مكوناتها عن بعضها البعض؛ فصناعة الإنسان على يد أستاذه تتم بصورة مقصودة أو ما نطلق عليها بالممنهجة، وفق مناشط متدرجة ترتقي بمعارفه وعملياته الذهنية وممارساته التي يؤديها، ومن ثم تشكل وجدان إيجابي يقبل الاستزادة في طلب جديد الخبرات وتلوناتها.
ومراحل بناء الإنسان نؤمن بأنه يتوجب أن تصبغ بقوامة الأستاذ على تقديم النصح والإرشاد والتوجيه؛ فيصعب أن يتجرع الإنسان ما يقدم له من خبرات بعيدًا عن ممارسة فعلية لها وبمساندة تحكمها قواعد تضمن النجاح في اكتسابها؛ فالتصويب عن المسار الخطأ دور أصيل للأستاذ، وكذلك التعزيز الذي يضمن الانغماس في بوتقة التعلم وشغف الاستدامة بمناحيها ومناحلها التي ترسخ قيم طلب العلم وتعضد من نبل طالبه وإخلاص من يحمل رسالته.
وتعالوا بنا نقف على دور الأستاذ في البناء العظيم؛ فنقل الخبرة لا يكون منفردًا عن طيف سيرة وسلوك الأستاذ الملاحظ، وهذا يعني أنه قادر على أمر عظيم يتمثل في تنمية قدرات ومواهب بعينها لدى الإنسان، والعمل بصورة مقصودة على الارتقاء بها؛ لتصبح هناك تفردات لمواهب عديدة؛ ففي الفصل الواحد نرصد من يجيد أدب الكتابة وهناك من يقتن فنون الرسم وآخر يحسن توظيف القوانين في حل المعضلات الرياضية أو الفيزيائية، إلى غير ذلك من الفروق الفردية لأصحاب التميز في المحافل التعليمية
ونخلص من ذلك أن بناء الإنسان من خلال أستاذ يمتلك المقومات المهنية والأكاديمية يصقل ما لديه من طيف مهارات ومعارف ويصنع وجدان يمده بقوة البيان والمثابرة من أجل تحقيق الفكرة ومقدرة على التواصل من اجل تحقيق المرمى، وبناء على ذلك نشاهد مخرجات من مؤسساتنا التعليمية ساهم في صناعتها أساتذة أجلاء أمدت هذا المجتمع النبيل بسلسة بشرية في مجالات التنمية بمختلف تنوعاتها؛ لتساهم في استكمال مراحل البناء ولإعمار والنهضة للدولة وتصون أمنها القومي في شتى ربوعها.
إن آفاق العلم كثيرة ومن يقع على عاتقه قضية بناء الإنسان يدرك مسارات إنارة القلوب، ويعلم ما تصبوا إليه الروح وما تتوق إليه النفس؛ فيعي كيف يقدم ما من شأنه يعزز الكرامة ويستنهض الهمة ويقوي العزيمة ويصنع المهارة ويعلي ويعمق من الفهم ويزيد من أغواره، وتلكم الأمور لا تقوم على عشوائية أو مصادفة؛ إنما يسبقها تخطيط يقوم على فكر مستنير وتنفيذ في مناخ داعم للعمل ومؤثر في الأفئدة كي تصطف خلف أستاذها وتؤدي ما يوكل إليها من مهام بإقبال ومحبة وشغف.
ما أجمل أستاذ يقوم ببناء الإنسان الذي يضيء مشاعل الأمل والتفاؤل في المجتمع؛ ليخرج لنا من يداوي الآلام ويتسبب في شفاء الأسقام، ومن يبني حضارته بمعمار يبهر الأبصار ويبهج النفوس ويسر العيون، ومن يصنع ما ييسر به أمور الحياة ويفي بمتطلباتها ويحقق تطلعات الرفاهية المستحقة لبني البشر، ومن يصنع المعرفة بمزيد من البحث والتقصي والاستكشاف والدأب على تحصيل جديد العلم وما يغمره من أسرار تفيد البشرية قاطبة؛ فلا شك أن النتاج وفير والثمرة عظيمة ويصعب حصر تناولها في هذا المقام الضيق.
ونوقن أن من بني البشر ما يضاهي اللؤلؤ والمرجان، ومن يكشفه لنا بعد مراحل الإمداد بفيض نهر العلم ونوره المسطاع يكمن في أستاذ تحوي جنباته علم وفضيلة يموج بينهما كنز أفكار جارية لا ترتبط في كثير من الأحيان بورقة وقلم؛ لكن مداد الإخلاص وعمق التدبر جعل روحه وقلبه وفؤاده يتوق بمحبة العلم وفروعه؛ فيزداد لديه شوق العطاء لجيل تلو آخر دون توقف؛ فالبناء بالنسبة له رسالته السامية التي لا يتخلى عنها ما دامت العروق تنبض بالحياة.
وكيف لنا أن نتقبل مجتمعًا أو شعبًا تسوده الجهالة؛ فلا مكان لفضيلة ولا متسع لمحبة؛ فالمعيشة تحكمها قوانين الغابة وتحرسها مصالح المنتفع وسلطة وجبروت المقتدر، في نرى أستاذًا يقدم لنا علومًا وفنونًا تحفظ لنا العقول وتنشط الأذهان وتكسب مهارة العمل، رغم ما يواجهه الأستاذ من مصاعب الحياة التي لا نعلمها ولا نلقي لها بالًا؛ فنجده يتحمل العبء والمسئولية ولا يكل أو يمل من العطاء المستدام وفيض طوفان العلم والخبرة المملؤة بالمحبة والرضا وبشاشة الوجه ودماثة الخلق.
تعجز كلماتي ويتوقف قلمي بأن أفي أو استوفي الأستاذ قدره ومقداره العظيم ودوره الرائد في بناء الإنسان؛ حيث إن فلسفة العلم ممزوجة بأدب النفس تخفيها خلجات القلب تبرهن عنها شخصيته الوقورة ومكانته العالية التي لا توازيها أو ترتقى إليها مكانة؛ فهو الفاضل المفضال الذي يضيء القلوب المظلمة ويزيل شوائك النفس التي ترهق الجسد، ويغرس البذرة التي تنمو يوم تلو الآخر؛ لتثمر الأشجار بحلو ثمارها المتنوع؛ فتتزين الأرض بإنسان يحمل وجدانه الخير والمحبة والإخلاص؛ فيسارع في عقد شراكة بناء الأوطان ويقدم كل غال ونفيس من أجل تلك المرام.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر