تخيل… 101 سنة تمر بعد غد 15 سبتمبر على رحيل سيد درويش، ومازالت موسيقى الرجل تسعد الناس وتطربهم، فيرددها الجمهور والهواة والمطربون المحترفون! فقد رحل (خالد الذكر) في 15 سبتمبر سنة 1923، وليس كما هو مكتوب في (جوجل) 10 سبتمبر،
ودليلي على ذلك فيلم (سيد درويش) الذي أخرجه أحمد بدرخان سنة 1966، حيث أكد فيه أن يوم رحيل الرجل كان 15 سبتمبر،
ومعلوم أنه من المنطقي أن من يتناول حياة سيد درويش في فيلم، سيبذل جهدًا كبيرًا للتحقق من التواريخ المهمة في حياة الرجل، وحتى وفاته، خاصة وأن الفترة الزمنية بين الموت وإنتاج الفيلم لا تتجاوز 43 عامًا فقط.
المدهش في الأعجوبة التي اسمها سيد درويش أنه ابتكر نحو 300 لحن، على الرغم من أنه عاش 31 سنة فقط، فقد ولد بالأسكندرية في 17 مارس 1892، كما جاء في الفيلم إياه،
وظل مقيمًا بها حتى هبط أرض القاهرة في 1917 ليستقر في عاصمة الفن، وفي ظرف ستة أعوام فحسب ملأ الدنيا وشغل الناس بموسيقاه. وكان قد غادر إلى الشام في رحلات متقطعة قبل أن يسعى إلى القاهرة.
في تسجيل إذاعي نادر يصف نجيب الريحاني صديقه الفنان العبقري قائلا:
(سيد درويش كان روح هايمة على وش الأرض. روح غير مستقرة. روح بتستعجل أيامها في الرحيل من الحياة… كأن الحياة دي حمل تقيل وعاوزة تتخلص منه… أهداني مرة صورته وكتب لي تحتها… من ميت يُهدى إلى أموات)،
ثم يشرح الريحاني كيف اتفق معه على تلحين أول مسرحية استعراضية، وكانت (ولو) التي عرضت في يوليو 1919، ويضيف ضاحكا: (الرواية طلعت في المسرح من هنا، وفلوس الناس طلعت من جيوبها من هنا…
في الشوارع مطرح ما تمشي ما تسمعش إلا الحلوة دي قامت تعجن في البدرية، ويهوّن الله على السقايين)، ويستدرك الرجل محللا سر العبقرية الموسيقية: (عرفت الشيخ سيد قبل ما اشوفه، وقدرته قبل ما اتعرف عليه…
سمعت له لحن من رواية فيروز شاه – قدمتها فرقة جورج أبيض – كان مطلعه أنا رأيت روحي في بستان… استلفت نظري بشكل عجيب… وشفت فيه لون تاني غير الألوان اللي كنا بسنمعها، وحسيت كأن واحد نقلنا من عالم نايم همدان إلى محيط تاني كله نشاط وصحة…).
لا يمكن فهم التطور الموسيقي المذهل الذي أحدثه سيد درويش بعيدًا عن زلزال ثورة 1919. لقد فجرت هذه الثورة العظيمة شلال الإبداع في أنفس العديد من الفنانين والكُتّاب،
وكان سيد درويش يتصدر قائمة الأفذاذ الذين مزجوا عبقريتهم بقضايا الناس وأحلامهم في الاستقلال والحرية والعدل والإنصاف، فتدفقت موسيقاه الجديدة لتلمس القلوب وهو يصدح بها بصوته الحنون.
تذكر معي بعض أغنياته التي رددها الناس من قرن إلى آخر، ومازالوا: (بلادي بلادي/ قوم يا مصري/ أحسن جيوش في الأمم جيوشنا/ أنا المصري كريم العنصرين/ سالمة يا سلامة/ الحلوة دي قامت تعجن/ زوروني كل سنة مرة/ اهو ده اللي صار/ أنا هويت/ والله تستاهل يا قلبي/ خفيف الروح بيتعاجب/ يا ناس انا مت في حبي) وغيرها كثير.
ويقول في أغنية (أوعى يمينك) محتفيًا بالوطن:
(اسمع اسمع مني كلمة/ إن كنت صحيح بدك تخدم مصر أم النيا وتتقدم/ لا تقول نصراني ولا مسلم/ ولا يهودي ياشيخ اتعلم/ اللي اوطانهم تجمعهم/ عمر الأديان ما تفرقهم).
أما الموسيقار الأعظم محمد عبدالوهاب فقال عنه في حديث إذاعي: (لقيت مزيكته، برغم أنها جديدة، لكن عشرية… كأنها عايشة معايا من زمان، مزيكا لها أب ولها أم… مزيكا بنت حلال).
ومن يجرؤ على الكلام عن الموسيقى وسيد درويش بعد عبدالوهاب؟