بالمقاييس العادية فالانتخابات الأمريكية حدث محلى بامتياز يهم ملايين الناخبين فى الولايات المختلفة ولكن بحكم الواقع فالأمر محط اهتمام استثنائى من كل عواصم العالم فى انتظار ساكن البيت الأبيض لأربع سنوات كاملة منهم من يرى أن وصول مرشحة الديمقراطيين كامالا هاريس فقد تتوافق مع مصالحه وآخرون على عكس ذلك فى انتظار فوز مرشح الجمهوريين دونالد ترامب وكان له تجربة رئاسية سابقة والعجيب فى الأمر أن الشئون الخارجية قد لا تحتل مركزا مهما فى حملات المرشحين فاهتمام الناخب تبدو ذاتية ومحلية مثل الضرائب وتوفير فرص عمل والحد من التضخم بينما مشاكل العالم وحروبه قد لا تشغله كثيرا ولعلنا نسعى إلى الكشف عن بعض ملامح الانتخابات قضية المهاجرين التى يلعب عليها ترامب ويسعى لمغازلة قطاع مهم من الأمريكيين الرافضين لفكرة المهاجرين خاصة غير الشرعيين بالإضافة إلى رصد توجه الصوت اليهودى وسعى ترامب إلى تعديل مسار اختياراته.
بينما تدور رحى الحرب، وتستعر فى الشرق الأوسط، تدور حرب أخرى على بعد آلاف الأميال، لكنها حرب تخلو من الدبابات والقاذفات والطيران العسكري. هنا فى الولايات المتحدة الأمريكية لا صوت يعلو فوق صوت الحرب السياسية الطاحنة بين مرشحى الرئاسة، كاملا هاريس، نائبة الرئيس المعروفة بليبراليتها المفرطة، ودونالد ترامب، المولع بالأضواء، والمعروف بضجيجه وصخبه أينما حل وذهب.
فى تلك المعركة تعددت الأسلحة والأدوات، ما بين حقائق وأكاذيب، واستخدم كل طرف فيها جميع الأوراق المتاحة للنيل من خصمه. على رأس تلك الأوراق الحاضرة بقوة، ورقة المهاجرين فى بلد قائم أساساً على الهجرة والمهاجرين، فكان من الطبيعى والمنطقى أن تكون تلك الورقة من أهم أوراق لعبة الانتخابات الأمريكية خاصة فى ظل وجود منافس له مواقف معادية وبشكل علنى للهجرة والمهاجرين، ليس هذه الأيام فقط بل ومنذ أن عرف طريقه للسياسة حيث يعتبر ترامب أن مشاكل بلاده أساسها هؤلاء المهاجرون حتى وإن حاول الإمساك بالعصا من المنتصف عندما قال إنه يقصد الإرهابيين من المهاجرين وليس كلهم، إلا أن هذه الحجة لم تنطل على أحد فالرجل لا يخفى كرهه للمهاجرين، والقرارات التى اتخذها إبان ولايته السابقة للبيت الأبيض الذى يحلم بالعودة له مرة اخرى خير دليل حيث عانى ولا يزال يعانى منها الكثير ممن اختاروا أمريكا كوطن بديل.
لا يدع ترامب أى فرصة تمر دون أن يدغدغ مشاعر فئة ليست قليلة من الأمريكيين الذين لهم مواقف معادية للهجرة لدرجة أنه استغل منشوراً على الفيس بوك ادعت صاحبته أن جارة لها من هايتى استدرجت قطتها وأكلتها، ورغم أن صاحبة المنشور أعلنت ندمها على هذه المبالغة التى أشعلت الرأى العام إلا أن ترامب لم يلق بالاً واستمر فى ترديد تلك الشائعة فى كل لقاءاته الانتخابية.
وتعود القصة عندما سمعت سيدة تدعى «لي» 35 عاما، أن قطة جارتها اختفت، وأن «أحد الجيران الهايتيين ربما يكون قد استولى على القطة». وكتبت حينها منشورا على فيسبوك، قبل أن تحاول التأكد من جارتها بشأن الواقعة، ليتضح أن القطة التى يُفترض أنها اختفت لم تكن قطة ابنة جارتها، كما نشرت، فحذفت المنشور، لكنه وجد طريقه إلى ترامب ونائبه جى دى فانس، الذى نشأ على بعد نحو 40 ميلا من سبرينجفيلد، البلدة التى تعيش فيها «لي» فى ولاية أوهايو. وكتب ترامب «كانت سبرينجفيلد مدينة جميلة، الآن يعيشون جحيما»، مشيرا إلى أن الاستيلاء عليها من قبل مهاجرين غير شرعيين «شيء فظيع».
مما لا شك فيه أن لدى ترامب سجلا حافلا فى ملف الهجرة إلى أمريكا، وقد وعد ناخبيه مجددا بشن حملة صارمة ضد الهجرة غير الشرعية، واتخاذ إجراءات تنفيذية أكثر صرامة.
ويعتقد ترامب أن قوانين الحدود الحالية تهديد وجودى للولايات المتحدة، وهو يردد دائماً عبارات من عينة إن المهاجرين «يسممون دماء بلادنا» ويجلبون «لغات» جديدة. بل ورد على لسان حملته إن «الرئيس ترامب سيغلق كارثة بايدن الحدودية.وسينهى مرة أخرى سياسة الاعتقال والإفراج، ويعيد البقاء فى المكسيك، ويقضى على الاحتيال فى طلبات اللجوء».
ووعد ترامب بتفويض الحرس الوطنى وسلطات إنفاذ القانون المحلية للمساعدة فى القضاء بسرعة على أعضاء العصابات والمجرمين المتورطين فى قضايا الهجرة غير الشرعية.
أما بالنسبة لهاريس فهى تعتقد بأن المهاجرين يجعلون الولايات المتحدة أفضل.وهى تشير فى كل لقاءاتها إلى أن الفيصل هو القانون الذى يطبق على الجميع مؤكدة أن المهاجرين جزء لا يتجزأ من تاريخ أمريكا وأن من يحاول تغيير التاريخ الآن واهم ولا يريد أن يرى الحقائق المجردة ويعتمد على أساليب ليست أخلاقية تحدث الفتن والشقاق بين الشعب الأمريكى كما فعل عندما حرض أنصاره من قبل على اقتحام الكونجرس وعدم اعترافه بالهزيمة.وألمحت هاريس أكثر من مرة ساخرة من تصرفات منافسها الصبيانية باستغلاله منشورا وهمياً ليشعل الفتنة من جديد فى سبرينجفيلد المدينة الصغيرة التى تقع فى شمال شرق الولايات المتحدة ويشكل البيض غالبية سكانها. حيث يخشى المهاجرون الذين جاءوا من هايتى واستقروا بأوهايو من التعرض للعنف العنصرى بسبب المزاعم التى أطلقها ترامب، والتى لم يتم إثباتها.
هذا لا يعنى أن هاريس تؤمن بالهجرة المفتوحة بل هى تؤمن بضرورة الحد من الهجرة غير القانونية، وهو ما أكدته خلال زيارة الحدود الأمريكية – المكسيكية، وهى الأولى التى تقوم بها منذ حلّت مكان الرئيس جو بايدن بصفتها مرشحة الحزب الديموقراطى فى يوليو، للرّد على اتّهامات خصمها ترمب بشأن فشلها فى مواجهة أزمة الهجرة.
ودعت هاريس لتشديد الإجراءات الأمنية عند الحدود، وحمّلت ترمب مسئولية فشل جهود بايدن الرامية لتمرير مشروع قانون مشترك بين الحزبين بشأن الهجرة، مؤكدة أن الشعب الأمريكى يستحق رئيساً يهتم بأمن الحدود أكثر من الألاعيب السياسية. واتهمته بالضغط على الجمهوريين فى الكونجرس لرفض منح مزيد من التمويل لأمن الحدود.
وكذلك لم تغب قضية الهجرة عن المناظرة الأخيرة بين المرشحين لمنصب نائب الرئيس، الديمقراطى تيم والز، والجمهورى جى دى فانس، الذى تساءل عن سبب عدم قيام هاريس بجهود ملموسة لمعالجة مسألة الهجرة أثناء خدمتها فى إدارة الرئيس جو بايدن، وشن هجوما عليها، وعندما سُئل عن خطط ترامب بشأن عمليات الترحيل الضخمة بحق المهاجرين لم ينف ولم يؤكد بل ألقى فانس باللوم على إدارة بايدن لتراجعها عن بعض سياسات الحدود الأكثر صرامة. وقال إن «المهاجرين المجرمين سيكونون هدفًا أولاً للترحيل»، وتهرب من سؤال بشأن فصل العائلات (المهاجرين عند احتجازهم)، حتى لو كان الأطفال مواطنين أمريكيين.ومن جانبه، وصف والز ترامب بأنه زعيم «غير مستقر»، مهاجما إياه لـ»ضغطه» على الجمهوريين فى الكونجرس للتخلى عن مشروع قانون أمن الحدود فى وقت سابق من هذا العام.
وأخيراً نستطيع التأكيد بأن ملف الهجرة سيكون الأكثر حسماً لنتيجة السباق الرئاسى حتى لو لم يكن الملف الوحيد لكنه الأكثر تأثيرا كونه يخص شريحة ليست صغيرة من الشعب الأمريكي. لقد جاءت نتيجة الاستفتاءات الأخيرة بالنسبة لقضية الهجرة فى صالح كامالا هاريس لكن هذا ليس كل شيء ففى أمريكا كل شيء يتحول من النقيض إلى النقيض فى لحظة لدرجة أنهم يرددون هنا مثلاً شعبياً جديدا يقول فيما معناه:»تبات كامالا تصبح ترامب» والعكس صحيح!