صدق من قال “هذا شهر يحبنا ونحبه”، فيه انتصرت قواتنا المسلحة الباسلة على العدو الصهيوني في 1973، أذلت كبرياءه وأذاقته مرارة الهزيمة والانكسار، ولقنته درسا كان ينبغي أن يعيه جيدا، فصاحب الحق لا بغفل عن حقه، وصاحب الأرض المسلوبة سينتفض ذات يوم لا محالة لاسترداد أرضه، مهما كلفه ذلك من تضحيات، والشعوب الحرة قد تضعف قدراتها، لكن إرادتها لا تلين، وحريتها لا تكتمل إلا بحرية أراضيها ومقدساتها.
ومازال نصر أكتوبر علامة بارزة ملهمة في تاريخ الصراع مع إسرائيل، ونموذجا حيا لوعي الشعوب العربية بعدوها الحقيقي، وقدرتها على تجاوز المحن، واستعادة ثقتها بنفسها في مواجهة هذا العدو وهزيمته، مهما أوتي من أسباب المنعة، ومهما ساندته قوى الأرض جميعا.
وأجزم أن روح التحدي التي تحلى بها المقاتل المصري في 6 أكتوبر 1973 هي روح التحدي نفسها التي تلبست المقاوم الفلسطيني وهو ينتفض طوفانا هادرا في 7 أكتوبر 2023، عابرا حواجز الجغرافيا والتاريخ، ليثبت أن غزة الأبية لن تستسلم لحصار الذل والمهانة، ولن تغض الطرف عن جرائم اغتصاب الأرض، ولن تقف مكتوفة الأيدي أمام الاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى المبارك، والمخططات الجهنمية التي تعد سرا وعلنا للسيطرة على ما تبقى من فلسطين، وتشريد شعبها مرارا وتكرارا، وهي أيضا روح التحدي نفسها التي تلبست المقاوم اللبناني الباسل الذي يتصدي في أكتوبر 2024 لعنجهية مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، ويكتب بصموده أمام الآليات العسكرية الزاحفة إلى الجنوب اللبناني صفحة ناصعة من صفحات المجد لشعبه وأمته.
المقاومة في بلادنا أمة واحدة، بعضها من بعض، تتعدد ساحاتها وأشكالها ومشاربها، لكنها في حقيقة الأمر تحمل روحا واحدة، وتنبعث من نفس واحدة، تتحلق حول فلسطين، جرح العروبة النازف، وترنو إلى الحق والعدل والحرية والقيم العليا، وتأبى الخضوع والخنوع والاستسلام.
في تاريخنا الحديث صار أكتوبر شهر النصر والبطولات، وشهر اعتدال الميزان، ولقد رأينا في أواخر سبتمبر الماضي كيف انتشى نتنياهو بعد اغتيال حسن نصر الله زعيم حزب الله، وظن أنه قادر على فرض هيمنته وسطوته على الجميع، فأعلن في تصريحات متغطرسة مهينة أن إسرائيل تعمل بشكل ممنهج لتغيير الواقع الإستراتيجي في الشرق الأوسط كله، لكن حين جاء أكتوبر العظيم، وجاءت معه الضربة الإيرانية الانتقامية الموجعة، والردود اللبنانية القاصمة، استفاق من نشوته وسكرته، وعاد يرتدي السواد، ويتحدث عن أمن إسرائيل المهدد من سبع جبهات.
تتعانق أيام أكتوبر كما تتعانق أيام المجد عبر السنين، وإذا كنا نحتفل كل عام بذكرى العبور العظيم فسوف نحتفل كل عام أيضا بذكرى طوفان الأقصى، الذي ندعو الله أن يكون بداية تحرير الإرادة الفلسطينية من أغلالها الثقال.
إن استمرار نتنياهو في الحرب لمدة عام من دون حسم هو أكبر دليل على فشله في تحقيق أهدافه المعلنة، إذ لم يستطع اقتلاع المقاومة، أو فرض سيطرته العسكرية بالكامل على غزة، ولم ينجح في تحقيق النصر المطلق واسترداد الأسرى أحياء، ولم يستطع تهجير أهل غزة طوعا أو جبرا، وبالتالي فشل في أن يرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط كما كان يزعم، والسبب في ذلك كله يعود لبطولة وبسالة المقاومة والشعب الفلسطيني بأسره.
قبل السابع من أكتوبر 2023 بأسبوعين كان نتنياهو قد أعلن في الجمعية العامة للأمم المتحدة أن إسرائيل ترسم حدود شرق أوسط جديد لخمسين عاما قادمة، رافعا خريطة دولة إسرائيل التي تضم الضفة والقدس وغزة والجولان ومزارع شبعا اللبنانية، وقسم المنطقة إلى معسكرين؛ معسكر الأخيار المسالمين المتعاونين مع إسرائيل، يقابله معسكر الأشرار المناوئين لها، مع وعد بسحق هؤلاء المناوئين، وتشكيل تحالف إسرائيلي سني لمحاربة إيران، لكن انطلاق طوفان الأقصى عرقل المخطط الخبيث، وأحيا الحق الفلسطيني، وأوجد واقعا جديدا، ليس فقط على مستوى عالمنا العربي، وإنما أيضا على مستوى العالم.
ولا يخفى أن الإعلام الصهيوني يلعب الآن دورا خطيرا في تشويه المقاومة وكل من يساندها، ويعمل على إقناع العرب بأن إيران (الشيعية) هي العدو البديل، وبأنها تستخدم المقاومة لمحاربة إسرائيل بالوكالة، ثم تتخلى عنها عندما تحين المواجهة، ولقد رأينا كيف تم الترويج على نطاق واسع بأن تباطؤ إيران في الرد على جريمتي اغتيال إسماعيل هنية وحسن نصر الله كان تواطؤا، وأنها قدمت الرجلين قربانا لأمريكا وإسرائيل مقابل مشروعها النووي، ثم حين ردت إيران بضربتها الصاروخية سارعت الأبواق الصهيونية إلى الزعم بأن الرد كان مجرد مسرحية.
هذه لعبة إعلامية مكشوفة، نبه إليها عالم اللسانيات اليهودي الأمريكى الشهير نعوم تشوميسكي، وأسماها (لعبة التحويل وتشتيت الانتباه)، بمعنى أن يعمد العدو إلى تشتيت فكرك، وتحويل انتباهك من الخبر الرئيسي إلى خبر آخر أقل أهمية، ولكي تنجح لعبة التحويل لابد أن يكون الخبر الآخر المحال إليه أكثر إثارة وتشويقا من الخبر الرئيسي، فتذهب العقول من التركيز على جريمة الاغتيال والرد الإيراني إلى التركيز على أن إيران باعت هنية ونصر الله، وأن المسألة كلها مسرحية.
والحقيقة التي يعرفها المتابعون تتلخص في أن تباطؤ إيران في الرد على جرائم الاغتيال كان بسبب الوعود التي تلقتها من أمريكا وأوروبا عبر الوسطاء بأن لاترد ردا يشعل المنطقة، حتى تعطي فرصة لتمرير صفقة إنهاء الحرب في غزة وتبادل الرهائن، التي يعمل عليها الرئيس الأمريكي والحلفاء، كما تلقى حزب الله الرسالة نفسها، مما جعله يحافظ على تهدئة الجبهة الشمالية كي لا تغطي على الاهتمام الدولي بغزة وما يحدث فيها من إبادة جماعية، وكي تظل جبهة لبنان جبهة إسناد لا جبهة حرب كاملة.