ما حيينا وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها ستظل رمزية نصر أكتوبر نموذجا محفورا بأذهان كل مصري وعربي لأسمي وأدق معاني العزة والكرامة والشموخ ومحطة سامقة وفارقة للإنطلاق وقهر المستحيل وغرس الأمل وإرادة الحياة.
ولا تزال حرب أكتوبر المجيدة ملحمة وطنية مصرية متكاملة، ودرة التاج علي جبين أبناء أرض الكنانة ،فقد أعادت أرض سيناء الحبيبة إلى وطنها الأم، وتجمعت فيها كل المبادئ الوطنية والقيم السامية وأسست للنجاح والتميز، والإبداع وتدشين مشروعات التنمية والإعمار.
ويأتي شهر أكتوبر من كل عام حاملاً معه نسائم الانتصار والمجد.. تلك الأيام التي نستحضر فيها دروس النصر، ونحتفي بالأبطال والشهداء..ونحيي ذكرى الانتصارات والبطولات العظيمة، إذ تحتفل مصر وقواتها المسلحة هذا العام بالذكرى الـ51 لانتصارات أكتوبر المجيدة ، ذلك النصر المبين الذي قاتل المصريون من أجله، ودفعوا ثمنا غاليا من دمائهم الذكية وأرواحهم الطاهرة ليستردوا جزءا عزيزا من أرض الوطن.
لم تكن حرب أكتوبر مجرد معركةٍ عسكريةٍ عابرة خاضتها مصر وحققت فيها أعظم انتصاراتها علي الإطلاق، وإنما كانت اختبارا حقيقيا لقدرة أبناء المحروسة على تحويل الحلم إلى حقيقة، فلقد تحدى الجيش المصري المستحيل ذاته، وقهرَهُ، وانتصر عليه، وأثبت تفوقه في أصعب اللحظات التي قد تمر على أي أمة.
وبإرادة حديدية وإيمان بالله وثقة في النصر والانتماء والولاء للوطن دشن جيل أكتوبر العظيم ملحمة النصر الخالدة، واستطاعوا تحطيم أسطورة جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يقهر، ورفع راية الوطن على ترابه المقدس.
وعادت للعسكرية المصرية الكبرياء والشموخ، حين عبر عشرات الآلاف من أبطال القوات المسلحة، يوم 6 أكتوبر عام 1973 إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، لاستعادة أغلى بقعة في الوطن ، ومعها استعاد المصريون كرامتهم واستحقوا احترام العالم واعترافه بهذا الإنجاز الكبير.
وبكل المعايير الدولية الموضوعية ستظل حرب أكتوبر المجيدة علامة مضيئة في تاريخ العسكرية المصرية العريقة، فقد لقنت العدو دروسا لن تنسي ، حيث تبارت فيها جميع التشكيلات والقيادات في أن تكون مفتاحا لنصر مبين، وعلّمت العالم أن الأمة المصرية قادرة دوما على الانتفاض من أجل حقوقها وفرض احترامها على الآخرين، وأثبتت للجميع أنّ الحق الذي يستند إلى القوة تعلو كلمته وينتصر في النهاية، وأنّ شعب مصر لا يفرط في أرضه حتى تفيض روحه، وقادر على حمايتها والذود عنها.
وبكل المقاييس الواقعية والأسباب الدنيوية كانت المواجهة مع العدو الصهيوني شبه مستحيلة بعد سنوات من المعاناة والحروب والمؤامرات الأممية، لكن بوعد الله الحق وبشاراته تحقق النصر المبين.
وبقوة وعزيمة الأبطال كانت هناك حسابات أخري تتجاوز حدود الزمان والمكان..
وصدق الله العظيم
في محكم تنزيله الكريم: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾. الأنفال 60.
لقد أذهلت حرب أكتوبر الخاطفة حسابات القوي الدولية،وأثبتت قدرة العسكرية المصرية برموزها وأبطالها علي التخطيط والخداع الاستراتيجي وتوظيف أقل الامكانيات.
كما برهنت للدنيا علي براعة خير أجناد الأرض كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم مثنيا علي الجندى المصري وصموده ورباطه ،فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه: حدثني عمر رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر بعدي فاتخذوا فيها جندا كثيفا؛ فذلك الجند خير أجناد الأرض» فقال له أبوبكر: ولما ذلك يا رسول الله؟ قال: «لأنهم في رباط إلى يوم القيامة”.
ومن أفق الذكريات تعود بي الذاكرة إلي سنوات الصغر ،إبان فترة حرب أكتوبر وما قبلها بشهور قليلة حيث كنت في الخامسة من العمر، لكني أعي تماما معني كلمة الإنتماء وحب الوطن.
لقد عشنا اياما عصيبة في فترة التهجير من الاسماعيلية إلي عدة من بينها محافظات “دمياط والمنيا والشرقية، البحيره”
حتي عدنا لمسقط رأسنا الاسماعيلية بعد نصر أكتوبر وإتمام معاهدة السلام معاهدة السلام المصرية التي وقعت في واشنطن في 26 مارس 1979 في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد عام 1978.
وأذكر تماما كيف كان يحدثني والدي “رحمه الله”عن عظمة جيشنا الباسل وعملياته خلال فترة الاستنزاف ويحذزني من إلتقاط أي شيء من الأرض ،حيث تعمد العدو الغاشم إلقاء إلغام علي هيئة لعب أطفال وولاعات وأقلام وغيرها، وأذكر لقاء له وكنت في صحبته مع أحد الضباط بالقرب من قاعدة جوية ومنصة للصواريخ بالقرب من الساحل بدمياط..وكانت علي بعد خطوات من منزلنا ،وكنت أرمقها ليلا ونهارا بأعين الفخر والعزة حتي جاءت بشارات النصر.
وأذكر أيضا كيف كانت عظمة الشعب المصري وحسن ضيافته وكانوا يستقبلوننا وكأننا أبطال في معركة التحرير واسترداد الكرامة.
كما كان يحدونا آمال وتطلعات وطموحات بالعودة لمنازلنا ..
واتذكر كيف وفرت لنا الدولة من تسهيلات لزراعة الأرض وتملكها وبناء منازل جديده..
وأذكر ايضا كم كنت حريصا علي جمع قصاصات الصحف والمجلات وصور الزعيم الراحل الرئيس محمد أنور السادات بعد انتهاء الحرب وبدء مفاوضات السلام.
لقد كان وما يزال نصر أكتوبر نصرا متجددا يمنحنا طاقة إيجابية لتعزيز الإرادة وروح الولاء والانتماء للوطن الغالي.
وأتصور أن من عظمة إنتصارات أكتوبر الخالدة أنها تؤكد على أننا قادرون دائما على تحقيق المستحيل والتكاتف والإتحاد بمنهج متكامل المحددات، نحو تحقيق هدف واحد ومواصلة التنمية المستدامة وتحقيق الإنجازات وتدشين المشروعات المتتالية فى كافة قطاعات العمل بفكر ورؤية وحكمة.
وكما أصبح شهر أكتوبر ملهما لنا ومصدرا للطاقة الإيجابية وللتفاؤل وتجديد التطلعات نحو غد أفضل، ورمزا للصمود وبشارات النصر ،فقد أمسي كابوسا مفزعا للكيان الصهيوني المتغطرس بذكرياته المؤلمة التي فضحت أكاذيبهم وفندت أساطيرهم المزعومة.
وبعد هذه الجولات من الإفساد والتجبر، وقتل الأبرياء والمدنيين سيظل نصر أكتوير أيضا أيقونة الأمل في النصر الأكبر والتحرر والخلاص من ممارساته الإجرامية اللإنسانية في غزة ولبنان وسوريا، وتمام وعد الله الحق وكان وعدا مفعولا..(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) صدق الله العظيم.