الجزء الأول من مذكرات فريد شوقي “ملك الترسو” …
القاهرة 1924 في جمع من الناس تقدم محمود اسماعيل بخطوات ثابتة نحو حبل المشنقة بعدما تم اتهامه هو وخمسة اخرين من جمعية “اليد السوداء” باغتيال السردار الانجليزي “السير لي ستاك” ، اتسأل السؤال التقليدي “نفسك في ايه قبل ما تمـ. ـوت ؟؟” ، ألقى محمود نظرة أخيرة على زوجته وطفله الرضيع على صدرها تقف بجانب أخوها وسط الجمع الموجود ثم قطع نظرته وقال : (انا مديون لعم حسنين البقال بـ 3 جنيه و40 قرش ادفعوهم له بعد ما تشنقوني .. انا وزوجتي وابني فداء للوطن ، عاشت مصر) ونطق محمود الشهادتين واتفتحت طبلية الاعـ. ـدام واسلم محمود روحه لبارئها وسط نحيب زوجته ودموع شقيقها بجانبها ..
بعدها بتنتقل الزوجة وطفلها للعيش في بيت أخوها بعد ما خصص لهم دور في منزله ، كانت هذه السيدة هي عمة فريد شوقي ، وكان اعـ. ـدام زوجها بعد كفاحه ضد المستعمر هو المشهد اللي فتح فريد عينيه عليه في طفولته وبدأت به قصة فريد محمد عبده شوقي أحد عظماء فن التمثيل في التاريخ السينمائي بأسره ..
نشأ فريد في أسرة متوسطة اجتماعيا وماديا ومتنوعة ثقافيا وفكريا بين عمته اللي عاشت على قصة بطولة زوجها وظلت تورثها لأبنائها ، وأمه الست القدرية التلقائية كأي أم مصرية مأصلة ، وجد وجدة في اواخر العمر ، اما أهم شخص لفريد في هذه العائلة وأهم شخص في حياته عموما كان والده محمد عبده شوقي المثقف الفنان محب الشعر والمسرح واللي غرز في فريد حب الفن وعلى ذلك نمى فريد مولع بالفن عموما وبالأخص التمثيل والشعر ، فكان والده يأخذه معه دائما لمسرحيات أهم ممثلي مصر وقتها “يوسف بك وهبي” ويشاهد فريد العروض مشدوها ويخرج منها حافظ المسرحية كلمة كلمة بالإضافة للندوات الخطابية اللي كان بيلقيها والده او ندوات لشاعره المفضل حافظ ابراهيم .. التمثيل اخذ لب فريد بالكامل فبقى طول الوقت بيمثل ، يقف قدام المراية ويقلد يوسف وهبي وسط ذعر والدته اللي شايفة ابنها اتجنن وبيكلم نفسه ، او ياخد مصروفه ويفكه ويوزعه على أطفال الحي عشان يجتمعوا حوله ويقف في وسطهم يمثل لهم مسرحية كاملة ليوسف وهبي او يلقي عليهم أشعار حافظ ويصفقوا له بعد نهاية عرضه ، بقى فريد بيحول كل مكان لمسرح وكل شخص لجمهور ويديها تمثيل ليوسف وهبي ، كانت والدته معارضة ده تماما ازاي ابنها يبقى مشخصاتي في المقابل كان والده بيدعم موهبته بكل ما اوتي بس بشرط انها متأثرش على دراسته فبقى فريد يجتهد أكتر في المدرسة عشان يفضل محافظ على ثقة أبوه فيه .. لم تخلو طفولة فريد من احداث درامية عنيفة زي اليوم اللي كان بيلعب فيه مع أصدقائه في المدرسة وكان زميل لهم أبوه ظابط فسرق الولد مسدس أبوه وجابه معاه المدرسة وقعد يلعب الولد بالمسدس مع تلميذ اخر وتقل ايده على الزناد فخرجت من المسدس رصاصة استقرت في صدر زميله فسقط قتـ. ـيلا في الحال وسط ذهول كل التلاميذ وعلى رأسهم فريد ، ايه اللي قلب اللعبة جد كده ؟!! مشهد مرعب لطفل في عمر الزهور ، دخل الولد القـ. ـاتل في حالة نفسية مزرية وعلى اثرها نقلوه اهله لمدرسة اخرى ، ودخل معاه كل زملائه في نفس الحالة وبقى فيه في الفصل مكانين فاضيين محدش يقدر يقعد فيهم مكان التلميذ المقـ. ـتول ومكان القـ. ـاتل وكل ما صادفت عين فريد أي المكانين انسالت دموعه وحلت به غمة وبسبب هذا الموقف عاش فريد حياته كلها مرعوب من المسدسات ومن لون الدم ، ملك الأكشن والمعارك كان مستحيل يخلي عينه تشوف دم واذا مسك مسدس في مشهد لازم يتأكد 50 مرة ان اللي فيه فشنك من رصاص حقيقي .. تخطي فريد أزمة هذا الموقف بفضل والده اللي رجعه لشغفه “الفن” لما خده معاه لمدرسة بنات كان مدعو فيها والد فريد لإلقاء خطبة للطالبات في حفل تقيمه المدرسة فقدم الوالد الفرصة دي لفريد ان هو اللي يطلع يخطب ويمثل فكانت فرصة العمر لفريد أول مرة هيقف قدام جمهور حقيقي مش اصحابه اللي بيدفعلهم فلوس عشان يسمعوه ، وقف فريد على مسرح المدرسة خاف وارتجف شوية في الأول لكن نظرة دعم وثقة من والده كانت كفيلة بإنه ينطلق في تمثيل احد مشاهد يوسف بك وهبي اللي حافظها عن ظهر قلب ، مثل المشهد لوحده بخطبة طويلة كعادة مسرح ذلك الزمن وبعد ما خلص انفجرت المدرسة كلها بالتصفيق له والاشادة باداءه واسلوب خطابته ، الوحيد الذي لم يصفق له كان والده ! .. اندهش فريد وتعحب ازاي أبوه أكبر داعم له ميكنش أول واحد يصفق له هل اداءه كان سيء للدرجة دي ؟! آثر الصمت لحد ما رجعوا البيت وسأله ، فرد الوالد وقاله “لا تمثيلك كان عظيم بس ازاي تقف في مدرسة بنات وكل جمهورك ستات وتمثلهم مشهد تخطب وتندد فيه بانحراف المراهقات والخيانة الزوجية ؟! مينفعش يا فريد ، لكل مقام مقال والفنان لازم يكون لبق وحساس ينتقي فنه على حسب طبيعة الجمهور اللي قدامه” .. استوعب فريد الدرس وفهمه وزاد اعجابه برجاحة عقل والده ودعمه له اللي استمر ثابت كالصخر في المقابل استمرت أمه رافضة فكرة ان ابنها يبقى ممثل او يحب التمثيل اصلا دي “مسخرة” حسب وصفها لحد ما بييجي يوم ويتغير رأيها ده كليا ، كان وقتها فريد في سن الـ 13 سنة وقف كالعادة قدام المراية يقلد يوسف بك وهبي ، خبط باب بيتهم فتحت أمه لقت واحدة من جيرانهم بتسألها “هو انتو مشغلين يوسف بيه على انهي محطة يا هانم ؟؟ اصلنا بنحبه وعايزين نسمعه زيكم” ، الست افتكرت انهم مشغلين يوسف وهبي على الراديو ، ضحكت أم فريد وقالتلها ان ده ابنها فريد مش يوسف بيه ، ذهلت الجارة ونزلت نشرت الخبر في الحي كله ان فريد بيقلد يوسف وهبي كأنه هو ، وهنا تغير رأي أم فريد كليا ، بقت موهبته مصدر فخر ليها قدام ستات الحي كله وفي يوم المقابلة اللي كل ستات الحي بيتجمعوا فيه عند واحدة منهم يوم في الاسبوع كنوع من الافتخار بابنها طلبت أم فريد من فريد يقلد لهم يوسف وهبي ، وانبهر الحضور كلهم وكان من ضمن الحضور طفلة في الثانية عشر من عمرها كانت “حسنية” اللي حكيت قصتها معاه في بوست سابق ولكن نحكيها تاني بمجمل قصة فريد ، من أول ما فريد شاف حسنية وقلبه وقع فيها وهي الاخرى بادلته نفس الشعور ، وبعد اليوم ده نشأت بينهم قصة حب في الخفاء بعيدا عن أعين الأهل لكن حب بريء صافي حسب وصف فريد ، بيتقابلوا كل يوم عشان يتكلموا عن يوسف وهبي وحافظ ابراهيم ويحلموا باليوم اللي فريد يبقى فيه نجم مشهور وحسنية تبقى زوجته ، واستمرت اللقاءات لحد ما في يوم اختفت حسنية بدون سابق انذار ، أهلها عزلوا من الحي وراحوا حي اخر لا يعرف فريد مكانه ، كانت صدمة لفريد ، حاول كالعادة يتخطاها بالفن وطور الموضوع من انه يعمل مسرح وهمي بيدفع فيه للجمهور لانه يعمل مسرح بجد قدام باب بيتهم ، جمع فريد كل أطفال الحي اللي بيحبوا التمثيل ولموا من بعض فلوس عشان يعملوا فرقة مسرحية ، واستلف فريد شوية خشب من واحد صاحبه وعملوا بها خشبة مسرح وديكورات وبالفلوس اجروا كراسي تبقى للجمهور ، وعملوا تذاكر ووزعوها على كل عائلات الحي وكان فريد هو بطل المسرحية ومخرجها ومألفها كمان مع اعترافه بانه سرق مشاهد من مسرحيات يوسف وهبي وعمل بها مسرحية سماها “الفاجعة” وراح اتفق مع واحدة ست انها تعمل دور البطلة قدامه بما ان فرقته كلهم كانوا ذكور ، جه يوم المسرحية والبطلة مجاتش راح فريد يدور عليها عرف انها مقبوض عليها ومرمية في التخشبية لانها ببساطة كانت فتـ. ـاة ليل وهو بسذاجته ميعرفش ، طب هيعمل ايه في الكارثة دي العرض خلاص هيفتح وأهل الحي كلهم متجمعين وشكله هيبقى وحش اوي لو معملش المسرحية أقلها هيبقى نصاب خد منهم تمن التذاكر ومعرضش ، لحد ما تفتق ذهنه لوجه صديق له أبيض اللون بشعر أصفر وعينين ملونة فقال بس وجدتها هو ده البطلة ، طبعا الولد رفض تماما في البداية لكن فريد اقنعه هنتفضح لو معملناش المسرحية وراح فريد جابله فستان من دولاب أمه ولبسه ومكيجه وخلاه البطلة واتفتح العرض ، واندمج الحضور مع تمثيل الأطفال وصدقوهم وصدقوا حتى الولد اللي بيمثل ست ، وفي عز ما فريد مندمج في مشهد المفروض بيقـ. ـتل فيه البطلة دي بتهمة الخيانة بيلاقي في وشه عسكري ماسكه من رقبته وبيقوله “انزل قدامي” ، افتكر في الاول ان العسكري صدق المسرحية وصدق انه هيقـ. ـتل بجد فقاله “ده تمثيل يا فندم ، مش هقتـ. ـلها بجد” ، قاله “تقتـ. ـل مين ؟! انزل قدامي يا حرامي الخشب !!” ، اتضح ان زميلهم اللي سلفهم الخشب مقالش لأبوه انه سلفهم فوالده لما شاف المسرح عرف ان الخشب ده بتاعه وافتكر ان فريد وزمايله سرقوه منه فراح وبلغ عنهم علطول ، وفي أقسى مشاهد طفولته اهانة نزل فريد من على المسرح كملك يجرد من عرشه والعسكري عافقه من قفاه وكل ما يتكلم يقوله “اخرس يا حرامي الخشب !” ، ووراه عيال الحي بيزفوه “حرامي الخشب اهوه ، حرامي الخشب اهوه !” وقفت العربيات في الشارع تشوف ايه اللي حصل ، وفريد بيحاول يخبي عينيه من الكل لكن للأسف عينيه وقعت في عيون ميقدرش يخبي نفسه منها ، عيون “حسنية” اللي كانت راكبة في عربية والدها ومعديين بالصدفة من الشارع وقتها وشافت كل اللي حصل لفريد ، فصرخ لها فريد : اوعي تصدقيهم ، انا مش حرامي يا حسنية !!
وللقصة بقية …