قال تعالى في كتابه العزيز” وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ “آل عمران 103، وبالنظر للآية الكريمة نجد أنها تمثل دستور استمرارية الحياة على الأرض، وتحمل في طياتها دعوة قوية للوحدة والتماسك بالقيم المشتركة والابتعاد عن الخلافات التي قد تؤدي إلى التفكك بين أفراد المجتمع، مما يبرز أهمية التلاحم في مواجهة التطرف الفكري، وتحذر من التفرق حيث يسعي التطرف الفكري لتفكيك الروابط الاجتماعية من خلال نشر أفكار تؤدي إلى الانقسام، وتبرز أهمية الالتزام بالمبادئ والقيم التي تجمع المجتمع، والتي تعتبر ركيزة أساسية لمواجهة الأفكار المتطرفة، وهذا يؤكد أن التطرف الفكري يُفقد الفرد توازنه ويخرجه عن السياق المجتمعي والقواعد والمبادئ والقيم التي يؤمن بها المجتمع ويجعله عرضة لسلوكيات ضارة ومتطرفة تتنافى مع قيم المجتمع ويسعي لنشر أنماط فكرية تتعارض ولا تتسق مع مقاصد الشريعة وثوابتها الراسخة وتتنافى مع مبادئ الدين الحنيف؛ نتيجة لأنماط فهم عقدي خطأ.
ونعي أن الأمن الفكري يستهدف بناء عقيدة صحيحة مصحوبة بنسق قيمي وأخلاقي، وحماية العقول من الغزو الفكري والانحرافات الفكرية، ومن ثم تحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي؛ لأن فلسفته تقوم على تحقيق الطمأنينة بناءً على سلامة الفكر والمعتقد؛ ومن ثم فإن كافة المجتمعات تقوم وتؤسس على الأمن الفكري الذي يحميها ويصون مقدراتها؛ فهو الحصن المنيع لها، كما أن تحقيق غايات الدولة ومصالح العباد وشيوع روح المودة والتعاون مرهون بفكر رشيد ووعي سديد، وإدراك صحيح لمآل الأمور.
ومما لا شك فيه أن الأمن الفكري يواجه تحديًا كبيرًا إزاء التطور التقني المتسارع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعى عبر كفاءة غير مسبوقة لشبكة الاتصالات الدولية، بما يؤدى إلى تزايد المخاطر المتعلقة بالانتشار السريع للمعلومات والأفكار غير الموثوقة والمضللة، مما يتطلب مزيدًا من الجهود لتعزيز الوعي وبناء المناعة ضد الأفكار المتطرفة والضارة.
وثمة اتفاق حول أهمية الأمن الفكري للمجتمع؛ حيث إن استقرار النفس التي تدعم الإيجابية والبنائية لدى الفرد بما يحثه على أن يحسن ويطور من خبراته المعرفية والمهارية منها بما ينعكس على رؤيته التي يستشرف بها مستقبله المشرق، ومن ثم يعمل بجد واجتهاد فيما يوكل له من مهام وأعمال، ويحاول بكل السبل أن يواكب المستجدات والمستحدثات التي ترتبط بتخصصه النوعي.
وتُعد التربية القويمة مقومًا رئيسًا للأمن الفكري؛ حيث إنها تهتم بالفرد بصورة تتسم بالتكامل في جوانبها؛ فتغذي الروح بصحيح الفكر والمعتقد، وتنمي مهاراته الاجتماعية التي تتسق مع قيم وعادات مجتمعه، وتعلى من تقدير الذات لتحفظ للنفس كرامتها، وتهتم بالوجدان ليصبح راقيًا ضابطًا للقلب والسلوك؛ فيخرج من حالة حب الذات إلى محبة الآخرين، وما وصف لا يعتبر مسئولية مؤسسة بعينها؛ لكنها مسئولية مجتمعية تشاركية.
وندرك أن العقائد السماوية تنادي بالحفاظ على النفس والمال والعهد والميثاق والحرص على تكوين شراكات لإعمار الأرض وصيانة بيئتها وحماية مقدراتها؛ حيث إن الإنسانية وفق طبيعتها المسالمة المحبة للحياة تقوم على وسطية الفكر، بينما نجد أن ممارسات أصحاب الفكر المنحرف تضير بمناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعزز السلطوية والديكتاتورية وتمحو حرية الإنسان المسئولة التي منحها الله تعالى إياه.
وما نراه على الساحة من تنامي للتطرف الفكري يؤكد أن الأمن الفكري أضحى منهجية إعمار في بلادنا الحبيبة لنستكمل نهضتها ومسارها نحو التقدم والرقي، ونقاوم بصورة مجتمعية وجماعية كل ما يحاول بث السموم لأفكار شاردة تستهدف إسقاط القيم المجتمع النبيلة في هاوية سحيقة، ومن ثم نؤكد على أن الأمن الفكري الحصن الحصين ضد الشائعات المغرضة بكل تنوعاتها، وألوانها، وصورها، ومصادرها.
ونوقن أن التطرف الفكري يُعتبر آفة تهدد الاستقرار والتنمية في المجتمعات؛ فهو لا يقتصر على تدمير الرؤى المستقبلية وعلاقاتها مع غيرها، وآمالها التنموية في كافة المجالات فحسب، بل يعزز أيضاً التعصب والطائفية، مما يؤدي إلى تفاقم النزاعات الداخلية والخارجية، ويُعطل التطرف التفكير الإبداعي والتخطيط الاستراتيجي، مما يُعيق التقدم في مختلف المجالات، كما يُسهم في نشر الكراهية والتمييز، مما يقود إلى توترات وصراعات داخل المجتمع، مما يُعطي التطرف مبررات للتعدي على حقوق الآخرين، ويؤدي إلى العنف وسفك الدماء وانتهاك مبادئ القيم الإنسانية، ويُسهل معه الانتهاكات التي تهدد سيادة الدول واستقرارها، ومن يعد بيئة خصبة لانتشار الأفكار المتطرفة التي تؤدي إلى انتشار الإرهاب.
وهنا نؤكد على أن التطرف الفكري يعد تحدياً كبيراً يعوق ويقوض مسيرة النهضة والبناء في المجتمعات؛ فعندما يسعى البعض لتهميش الثوابت المجتمعية، فإنهم يهدفون إلى إضعاف الوعي الجماعي وتزيفه وتشويه الأفكار السائدة، ولمواجهة هذا التحدي، من الضروري أن يتم القضاء على مسارات القرصنة الفكرية من خلال تفعيل مقومات الأمن الفكري، ونشر ثقافة التفكير النقدي وتطوير المناهج التعليمية التي تشجع على الحوار والتفاهم، وتبني سياسات تشجع على الحوار بين الثقافات والأديان واستخدام وسائل الإعلام لنشر رسائل إيجابية وتعزيز القيم المجتمعية، والتصدي للأفكار المتطرفة من خلال تطوير استراتيجيات فعالة لمواجهة الأفكار المتطرفة عبر النقاشات والحوارات المفتوحة لتحقيق الأمن الفكري وتحافظ على مسيرة النهضة والبناء، وضمان استمرارية الحياة المتماسكة والمزدهرة في المجتمع.
التطرف الفكري يشكل تهديداً حقيقياً يُقوض مسيرة النهضة والبناء، ويجب مواجهته من خلال تنمية الوعي، ودعم القيم الإنسانية المشتركة، وتعليم الأجيال الجديدة أهمية التعايش السلمي والتسامح، كما يُعتبر أحد أبرز العوامل التي تقوض مسيرة النهضة والبناء في المجتمعات، ويمكن تصور تأثيره في شكل مثلث يتكون من ثلاثة زوايا رئيسية أولا: تفكيك الهوية المجتمعية، حيث يسعى إلى تهميش القيم والثوابت الثقافية والدينية، ويؤدي إلى فقدان الانتماء والولاء للمجتمع، مما يُضعف الروابط الاجتماعية، وثانيًا: ينشر الكراهية والعنف ويُسهم في خلق بيئة متوترة تُبرر استخدام العنف ضد الآخر، مما يزيد من حالات الصراع والفوضى، ثالثًا: إعاقة التنمية حيث يُعطل مسارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال نشر الفوضى وعدم الاستقرار ويُحبط جهود الإصلاح والتقدم، مما يؤثر سلباً على آمال الشعوب في تحقيق مستقبل أفضل.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر