تصحيح المسارات أفضل مائة مرة من المضي قدما في طريق المجهول، ولا يختلف اثنان في أرض الكنانة علي أهمية ما قامت به الدولة المصرية خلال العشر سنوات الماضية من إصلاحات اقتصادية وسياسية بهدف تدشين دعائم الجمهورية الجديدة وتحقيق إنجازات غير مسبوقة وتعزيز التنمية المستدامة.
كما لا يختلف اثنان على أنه من حق المواطن والذي تحمل الكثير والكثير من الصبر والاحتمال قطف ثمار التنمية ولو بعد حين ،أو بصورة تدريجية.
كما أنه من الحكمة اتخاذ خطوات فاعلة نحو مراجعة برامج صندوق النقد وخطة الإصلاح الاقتصادي ،وهو ما وجه به الرئيس السيسي حكومة الدكتور مدبولي مؤخرا قبل أيام من انطلاق جولة جديدة من المفاوضات مع البنك الدولي وسط هذه الظروف الراهنة شديدة الحساسية متسارعة المتغيرات ،حيث أشار الرئيس إلى أن القاهرة قد تضطر إلى إعادة تقييم برنامج القرض الموسع إذا لم تأخذ المؤسسات الدولية في الاعتبار التحديات الإقليمية الاستثنائية التي تواجهها البلاد.
وقد جاءت تعليمات الرئيس واضحة لا تحتمل الجدل ،خاصة بعد تزايد الأعباء علي المواطنين نتيجة الظروف الإقليمية والدولية وتراجع إيرادات قناة السويس.
وخلال أيام تبدأ مفاوضات الحكومة مع البنك والتي يتوقع أن تناقش أهم بنودها إمكانية تخفيض قيمة الجنيه وإلغاء دعم الكهرباء والمحروقات، علاوة علي إقرار حزمة جديدة من برنامج الحماية الإجتماعية للفئات الأكثر احتياجا.
وقبل عدة أيام وتحديدا في 24 أكتوبر الماضي أعلن صندوق النقد الدولي أن حجم برنامج القرض المقدم إلى مصر والبالغ 8 مليارات دولار “لا يزال مناسبا”، وأن الصندوق سيضع على أولوياته تقييم مدى فاعلية برامج الحماية الاجتماعية في البلاد.
كما ذكر الصندوق أنه يعمل مع السلطات المصرية بشأن ما يجب القيام به لتوسيع نطاق برامج الحماية الاجتماعية والتأكد من فاعليتها.
كما أعلنت “كريستالينا غورغيفا مديرة صندوق النقد الدولي أنها ستسافر إلى مصر في غضون عشرة أيام للاطلاع عن كثب على الوضع الاقتصادي والتأكيد على الحاجة إلى التمسك بتنفيذ الإصلاحات.
وأشارت في مؤتمر صحفي إلى أن الاقتصاد المصري يواجه تحديات بسبب الصراعات في غزة ولبنان والسودان وسط خسارة 70% من إيرادات قناة السويس.
ومع التفهم المبدئي لمسؤولي البنك الدولي للظروف الراهنة ،أتصور أنه من الفطنة وقبل فوات الأوان ، المراجعة الجادة لبرنامج الحكومة وشروط البنك الدولي لإتمام ما تم الاتفاق عليه، حتي لو تطلب الأمر إرجاء هذه القروض حتي حين.
كما أن هناك ثمارا متوقعة لجهود حثيثة ،ومن جهات أخري بعيدا عن الصندوق ،كنتيجة طبيعية لتوجهات مصر ناحية المعسكر الشرقي في سياق سياستها المتوازنة وهو ما كلل بالانضمام رسميا لمجموعة “بريكس” الواعدة،والتي تنوي تقديم ميزات اقتصادية وتسهيلات تمويلية للدول الأعضاء وللدول الحليفة.
وفي هذا السياق يري عدد من الخبراء والمحليين الاقتصاديين حتمية البحث عن الحلول الوطنية الأكثر ملائمة لأنها تراعى الأبعاد الاجتماعية بشكل عميق ويجب أن يكون هناك عمل جاد لمكافحة التضخم كأولوية أساسية للحكومة لتجاوز هذه التحديات.
ويشددون أننا في حاجة إلى إعادة تعريف للدعم، فى ضوء التفرقة بين ما هو نقص فى كفاءة الإنتاج وما هو نقص فى كفاءة الأسواق المنتجة، ثم نضع روشتة لكيفية وصول الدعم لمستحقيه وشكل هذا الدعم، فجوهر المشكلة الآن يرتبط بالعقد الاجتماعي الذي يربط بين الدولة والمواطنين، ويحتاج إلى صياغة منضبطة حتى لا يتحول تنفيذ البرنامج مع الصندوق إلى مزيد من الضغوط على الشعب!.
ومن مقترحات الخبراء وبعض المواطنين في هذا الشأن عبر المفاوضات مع الصندوق : زيادة قيمة البرنامج، ومناقشة زيادة مدة البرنامج بأن يضاف لها عام إضافى لتيسير الاجراءات المتبعه على مدة زمنية أطول، أو أن يتم زيادة مدة تخفيض دعم المحروقات، وتأجيله لمدة عام أو عامين ليتم الانتهاء من رفع الدعم مع نهاية برنامج الصندوق وليس بنهاية عام 2025.
وأيضا إرجاء المطالبة بتخفيض قيمة الجنيه ، وإلغاء دعم الكهرباء والطاقة، وتنفيذها على فترات متباعدة، بدلًا من تنفيذها على خطوات متتالية وسريعه، لأن توابعها ستكون عنيفه، خاصة أن تداعيات رفع الدعم عن المحروقات والطاقة، تنعكس مباشرة على التضخم وبالتالى على دخل المواطن ،لأنها عناصر تمس التضخم بشكل صريح وتضغط على دخل المواطن ،خاصة مع ارتفاع معدل التضخم السنوي خلال شهر سبتمبر الماضي ليسجل 26%.
كما يطالب البعض بإيجاد آلية مختلفة لتسعير المنتجات البترولية، ولذلك لابد من التفكير في دراسة إنشاء صندوق لتمويل فروق أسعار المنتجات البترولية لمزيد من التحوط وتخفيض الآثار السلبية على الموازنة العامة للدولة دون تحمل المواطن هذه الفروق أو على الأقل تحميله بشكل نسبي.
ويبقي النقاش الأهم بين مصر والصندوق حول سعر الصرف المرن وآلية تطبيقه، خاصة أن مصر تعتمد على الدولار في تدبير احتياجاتها ويشكل سعر صرف عاملا مهما في التكلفة ومدخلات الإنتاج، وعند تحريكه، ترتفع نسب التضخم والأسعار بشكل لا يتناسب مع متوسط الدخل.
وكل المعطيات تؤكد أنه لا حلول لضمان عدم تكرار أزمة الدولار إلا من خلال توفير تدفقات دولارية مستدامة نتيجة حصيلة أنشطة إنتاجية عن طريق التصدير والسياحة ودعم الاستثمار، وزيادة الاحتياطي النقدي الأجنبي بعيدا عن الودائع، فمصر لا تتحمل اي تحريك كبير في سعر الصرف، والحل يكمن في التحول إلي اقتصاد إنتاجي حقيقي قائم على الصناعة والتصدير والاستثمار والتعليم.
وفي اعتقادي أن فرص البحث عن “البديل الآمن “، هو أفضل السبل للفكاك التدريجي من الشروط المجحفة للبنك الدولي وصندوقه والتي لا تتناسب مع الواقع ومستجدات الظروف الراهنة والمستويات المعيشية لمعظم المصريين.
وهذا يتطلب حتمية اتخاذ إجراءات عملية نحو تعزيز الاستثمارات العربية والدولية وعقد شراكات مع دول “بريكس “، وإتاحة التعاملات التجارية بالعملات المحلية وتقليص الاعتماد علي الدولار إلي أدني حد ممكن.
كما أن هناك دورا للمواطنين بتفهم هذه الأبعاد والمشاركة الجادة في ترشيد استهلاك الوقود والطاقة الكهربائية ،والبحث عن بدائل محلية في هذا الشأن لتقليل فاتورة الاستيراد ، عبر توطين الصناعة، وتعظيم الإنتاج المحلي لمختلف السلع والخدمات، ومن ثم التخلي الجزئي عن العملة الصعبة وقيودها.
وعلاوة علي دور المواطن المساند لجهود الدولة ،في تقديري أن للقطاع الخاص ولرجال الأعمال الشرفاء دورا في تنفيذ هذه المعادلة الصعبة التي تستلزم الاعتماد علي البدائل والخيارات المحلية المتاحة بعيدا عن فكرة اللجوء للخارج ومن ثم الخضوع للأحكام والشروط..وهو البداية الحقيقية للاستغناء ، والاسهام بنصيب أكثر عدلا في التبادل التجاري ومن ثم ضبط ميزان المدفوعات
والميزان التجاري بين الصادرات والواردات ومغادرة صفوف المستهلكين!.
وفي النهاية يظل الحل بأيدينا لا بيد الصندوق بما له من ميزات قليلة وبما عليه من تحفظات جمة..والقادم أفضل بإذن الله.