وقد شعر المستشرقون في مؤتمراتهم الدولية بالحاجة إلى دائرة معارف لأعلام العرب والإسلام لكي تجمع شتات دراساتهم عنهم باللغات الثلاث والألمانية والإنجليزية والفرنسية، فدعوا إليها في سنة 1895م وكلفوا هوتسما بإنشائها ومطبعة ليدن بإصدارها، واستعين بالمجامع ومؤسسات نشر العلم في أوروبا قاطبة للإنفاق عليها.
وقد أنكر الشيخ نفسه في حياته كثيراً من هذه المزاعم التي افتراها عليه بعض أعدائه حيث جاء في إحدى رسائله إلى أهل القصيم: (ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتسبين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى عليَّ أموراً لم اقولها، ولم يأت أكثرها على بالي،
فمنها قوله: إني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وإني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وإني أدَّعي الاجتهاد وإني خارج عن التقليد، وإني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة، وإني أُكفِّر من توسل بالصالحين، وإني أُكفِّر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق، وإني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها، وجعلت لها ميزاباً من خشب، وإني أحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي، وإني أحرق دلائل الخيرات، وروض الرياحين وأسميه روض الشياطين، جوابي عن هذه المسائل: سبحانك هذا بهتان عظيم).
وفي إطار الأفكار التي أحدثك عنها نمت فكرة الشركات ذات الطابع الدولي. وأصبحت تلك الشركات إحدى الأدوات الهامة للاستعمار؛ وسعيه لإدامة نفوذه وتعظيم ثرواته. وتقوم هذه الفكرة على شركات تتجاوز إطارها القانوني كمشروع تجارى؛ لتصبح مؤسسة حاكمة لها أهدافها الاستعمارية في منطقة أو أكثر. ومن هذه الزاوية: كانت شركة قناة السويس؛ جنبا إلى جنب مع المشروع الصهيوني في فلسطين؛ وبعض النظم الحليفة في المنطقة العربية: أدوات جديدة للمستعمر.
ولذلك كانت إنجلترا تربط بين نفوذها في مصر من جهة؛ ومستقبل القنال من جهة أخرى. لاحظ ـ عزيزي القارئ ـ خطوات المستعمر الإنجليزي منذ أن سعى إلى شراء أغلب الأسهم؛ في شركة القنال في سنة 1875م … وحين شرع بعدها: في التخطيط والتجهيز لاحتلال مصر … وحين قام بحماية مصالحه في القنال: من خلال معاهدة القســـطنطينية ســنة 1888م … وحين أخذ يتفاوض مع المصريين: على شروط الجلاء عن مصر. اسمح لي أن أنقل إليك ملاحظة هامة؛ تتعلق بالوعى بهذه المسألة؛ وارتباطها بالاستعمار العالمي. ملاحظة تحملنا على أجنحتها إلى أمريكا الجنوبية:
تُرى ما الذي كان يصير إليه الشرق لو لم يفتحه الغرب؟ أكان يتطور تطورًا طبيعيًّا ولو بطيئًا أو كان يبقى خاملًا مريضًا حتى يموت؟ مهما كان الجواب فإن الغرب قد هز الشرق هزًّا عنيفًا، وأيقظه من نومه وفتح عينيه وحثه على الجد والعمل، شاء الغربي ذلك أو لم يشأ. فلما استيقظ الشرق أخذ يتلقى عن الغرب دروسًا كثيرة، درسًا بعد درس، وإن كان بعض هذه الدروس شديدًا قاسيًا. ومن حسن حظ الشرق أنه كان على استعداد لتلقي هذه الدروس وأن له من الذكاء ما جعله يفهمها، وكان من ضمن هذه الدروس المطالبة بالحرية والاستقلال؛ لأنه تعلم أن في المدنية الغربية شيئًا كثيرًا من ذلك. فلما طلب الشرق الحرية وفقًا للدرس الذي علَّمه إياه الغرب، أبى عليه الغرب ذلك وتجهم له وعبس في وجهه، وكان شأن الغرب في ذلك شأن المحامي الكبير الذي يعلِّم محاميًا ناشئًا، فإذا أتى المحامي الناشئ يترافع حسب ما علَّمه أستاذه أبى عليه الأستاذ ذلك.
وأخذ الشرق يكِن البغض للغرب، وقابل الغرب البُغض بالبغض حتى فاض الشرق بذلك وتحول بغضه إلى عمل. وتنعكس هذه الصورة في تاريخ زعماء الشرق، فدعاة الإصلاح الأولون أمثال خير الدين التونسي في تونس ومدحت باشا في الأستانة والشيخ محمد عبده في مصر، كانوا مسالمين يدعون قومهم في هدوء وسكينة أن يسالموا الغرب ويأخذون منه خير ما عنده، كما كتب خير الدين ذلك في كتابه «أقوم المسالك» وكما كتب مدحت باشا ذلك في مذكراته، وكما كتب الشيخ محمد عبده ذلك في كثير من مقالاته، فلما ظهر العداء في الشعوب رأينا زعماء الشرق يناهضون الغرب، ويشهرون بأعماله، ويبدون له الخصومة، وظهر أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول ومن بعدهم يدعون الشعب للكفاح ضد المستعمر،
وأصبحت كل الطبقات على اختلافها تكره المستعمرين وإن اختلفت أسباب هذا الكره؛ الملوك والأمراء يكرهون المستعمرين لأنهم سلبوهم سلطتهم، والأغنياء يكرهونهم لأنهم على دين ملوكهم، والفلاحون يكرهونهم لأنهم من غير دينهم، وحتى الذين ذاقوا ظلم العثمانيين وعسفهم، نسوا ذلك وأصبحوا يضمرون الضغن، وزاد في الضغن ما كان يظهر من الأجنبي المستعمر من غطرسة واستكبار وشموخ بالأنف، وشعور الشرقيين بأن هؤلاء الأجانب ليسوا من أهلهم ولا دينهم ولا يتكلمون لغتهم. وزاد في ذلك أن بعض أمم الغرب كانت تبعث بممثلين لها لا يتصفون بشيء من العدل ولا من الرحمة فكرَّهوا الشعوب فيهم وفي أممهم.
يضاف إلى ذلك أن الشعوب الشرقية كانت أول الأمر تعتقد أن القدر ابتلاهم بالغرب ابتلاءًا دائمًا، وأن الأمل في إخراجهم ضعيف لأنه ليس عندهم من القوة العسكرية ما عند الغربيين، فماذا يعملون إزاء الدبابات والغواصات والطيارات والجيوش المسلحة بأنواع الأسلحة المختلفة؟
ثم فهموا أن القوة العسكرية ليست كل شيء، فهناك قوى أخرى تزلزل قدم العدو، من مقاطعة البضائع وعدم تعاون واتحاد كلمة ونحو ذلك. وزادهم إيمانًا بذلك أنهم رأوا أن هذه الطرق جُربت فنجحت كما حصل في الهند، إذ كان غاندي الضعيف الذي لا يملك إلا مغزله ولا يأكل إلا لبن عنزه، أقوى من كل الجيوش والأساطيل الإنجليزية. فكثر أملهم في الخلاص، ثم حدثت حوادث قوَّت أمل الشرق، كاختلاف البلاد الغربية بعضها مع بعض، إذا كان الاختلاف بين فرنسا وإنجلترا مثلًا سببًا في استقلال لبنان وسوريا، وجاهر بعض المصلحين كولسن وروزفلت بتعاليم من مقتضاها حق كل أمة في تقرير مصيرها، فألهب ذلك حماسة الشرقيين.
وأخيرًا لم يبقَ حجر عثرة إلا حفنة من زعماء الغرب وقادة السياسة فيه، جمدوا على آرائهم وأبوا أن يسايروا الزمان، ولا بد أن يأتي يوم يفهمون هذه الحقيقة، أو لا يفهمونها فيحل محلهم من يفهمها فيتكشف الأمر عن استرداد الشرق حقوقه وإذ ذاك يسير مع الركب. فإن أعداء السلم من الصليبيين، واليهود والملحدة في هجمتهم الثانية على بلد السلم لم يكتفوا بهزيمة المسلمين العسكرية، بل عمدوا إلى خلفة السلم فأزالوها، وكانت رمزا تجمع شتات المسلمين، ثم عمدوا إلى أوطان المسلمين فمزقوها أوطانا وأقاليم، وأقاموا في كل موطن وإقليم سلطانا مواليا لنفوذهم ينفذ سياستهم بالترغيب والترهيب والحماية، ثم عمدوا إلى مناهج التعليم والتربية فصبغوها بصبغتهم في اللحاد والكفر وأنشأوا بذلك أجيالا من أبناء المسلمين يعادون دينهم ويتنكرون لتاريخهم وأمتهم، ثم عمدوا إلى الدين والحق فحاصروه في نفوس أتباعه، وضيقوا الخناق
عليه في كل مكان، واضطروا أهله إلى النجاة بأنفسهم أو تحمل صنوف العذاب والبلاء، ثم شنوا بعد
ذلك هجمة شرسة بأقلام وألسنة تقطر السم فشككوا في كل عقيدة من عقائد الدين، وأقاموا الشبه على كل فرعية من فرعايته، حتى أصبح الطريق إلى الله معوجا للسالكين، فل يكاد يهتدي إلى السلم أحد من أبنائه، حتى يقابل بسيل جارف من التشكيك والشبهات، ثم واصل العداء حملتهم على الجذور السلمية يريدون استئصالها والقضاء عليها حتى يسلم لهم فصل المسلمين عن أنفسهم وتاريخهم وبذلك يصبحون قطيع وراء كل ناعق–
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا