منذ سبعينيات القرن الماضي تناول التحليل الاقتصادي مشكلات الزواج والطلاق من زاوية الحوافز الاقتصادية لقرارات الزواج أو الطلاق. كشف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن نسبة الطلاق ارتفعت بنسبة 14.7% للعام 2021، مقارنة بالعام 2020، كما كشفت الإحصائيات عن ارتفاع حالات الطلاق بنسبة 5.9%، و زيادة بنسبة 5.6% في عقود الزواج لعام 2022. وارتفاع معدل الطلاق بالحضر من 2.5 في الألف للعام 2021 إلى 3.5 في الألف للعام 2022، بينما بلغت نسبة معدلات الطلاق بالريف المصري 1.9 في الألف للعام 2022، كما بلغ متوسط عدد حالات الطلاق في الشهر 22.5 ألف حالة عام 2022، وفي اليوم 739 حالة، وفي الساعة 31 حالة ، وحالة طلاق كل 117 ثانية، أي أقل من دقيقتين.
وامتد التحليل إلى مشكلات التوازن العام, بمعنى كيف يتحدد على المستوى الاجتماعي معدل الزواج أو معدل الطلاق3. غير أن الطلاق يثير مشكلات اقتصادية أخرى تتعلق بالرفاهية والتغيرات التي تطرأ على معيشة النساء المطلقات والأطفال من أبنائهن. وفى هذا السياق تبرز مشكلات التكلفة الاجتماعية المترتبة على الطلاق, بمعنى الأعباء التى يتحملها المجتمع لرعاية الفئات التي يؤثر الطلاق تأثيرًا سلبيًا على نوعية حياتهم.
وتكاليف الطلاق مثلها مثل أى تكلفة اقتصادية هي عبء يتحمله المجتمع. ودراسة هذا العبء وتقدير حجمه يثير التساؤل عن مبرراته. والتحليل الاقتصادى يبحث دائمًا عن العائد الذي يتحقق مقابل التكلفة. ذلك أن التحليل الاقتصادى ينظر إلى الإنسان باعتباره كائنًا رشيدًا, ويفترض أنه يتخذ قراراته بموجب هذا الرشد لتحقيق منفعة لا لتحقيق الضرر. ولهذا لا يقف التحليل عند الحكايات المأساوية التى يرويها المطلقون، وإنما يتجه إلى قياس حجم المعاناة، ويبحث أيضًا عما وراء ذلك من دوافع.
عند هذه النقطة يلتقى التحليل الاقتصادي والتحليل النفسي، إذ يبحث كلاهما عن دوافع, وهي في التحليل الاقتصادي منافع اقتصادية تبرر اتخاذ القرار. وهكذا تهتم الدراسات الاقتصادية بالعلامات السببية، ومع ذلك فالدراسة الحالية لا تتناول أسباب الطلاق، وتترك هذا الجانب للباحثين الاجتماعيين، فلا تتطرق إليه إلا بصورة عابرة عندما يصبح من اللازم أن تشير إلى العائد الاجتماعي الذي يبرر تكاليف الطلاق. ليس من المنطقي أن نتحدث عن التكلفة أو العائد بدون أن نحدد المقصود بتلك المفاهيم. ويجب ألا نفهم التكاليف باعتبارها رسوم التقاضي وأتعاب المحامين،
فهذا هو الجزء الظاهر على السطح فقط والأسهل في الحساب. هذه الرسوم والأتعاب تمثل إنفاقًا لجزء من موارد المجتمع لتحقيق هدف محدد هو الطلاق، وبهذا المعنى فهي جزء من تكلفة الطلاق، غير أن هناك جزءًا آخر من موارد المجتمع يخصص لتعويض المتضررين من الطلاق وهم من تتدهور نوعية حياتهم نتيجة له. وهؤلاء المضررون هم غالبًا من النساء والأطفال. أن الظروف الاقتصادية قد لا تؤثر بشكل مباشر على الأفراد في المجتمعات المستقرة نفسيًا، لكن الشخصية المضطربة تجد صعوبة في التكيف مع التحديات الاقتصادية، مما يؤدي إلى زيادة الضغوط والطلاق في نهاية المطاف. كما أن الاضطرابات السلوكية قد تدفع بعض الأزواج للبحث عن علاقات أخرى دون الاكتراث بحقوق الزوجة أو الأطفال.
ويظل هناك جانب آخر لا يمكن تجاهله، فالتدهور المشار إليه بنعكس على المجتمع كله، إذ يترتب عليه انخفاض في إنتاجية أولئك التي تتدهور نوعية حياتهم. وينخفض الناتج القومى بانخفاض إنتاجية هؤلاء ويزداد الانخفاض كلما زاد عددهم. وتمثل النزاعات الزوجية بداية التدهور. والمعروف أن الحياة الزوجية لا تنتهى لحظة صدور قرار الطلاق بل تنتهي فعليًا قبل ذلك، عندما تستحكم الخلافات ويحتدم الصراع بين الزوجين. وهكذا يزداد العبء أو ما نسميه التكلفة كلما طال النزاع.
من هنا يمكن تحديد مفهوم تكاليف الطلاق بأنه جملة ما يخصص من موارد المجتمع للإنفاق على قضايا الطلاق، وتعويض المتضررين بعد حدوث الطلاق، بالإضافة إلى ما يتبدد من موارد المجتمع وما ينقص من دخله نتيجة النزاعات الأسرية.
أما عائد الطلاق فهو الوجه الآخر للعملة. وهو بالتالي ما يحققه المجتمع من مزايا أو منافع نتيجة للطلاق. وقد يبدو هذا متناقضًا مع حكايات الطلاق المأساوية التي تمزق قلوبنا، لكن التحليل الاقتصادي لا يقف عند العواطف، بل يتجاوزها للبحث عما وراءها.
وهكذا يمكن أن نرى تكلفة الطلاق باعتبارها ثمنًا لشئ ما. هذا الثمن يدفعه المجتمع راضيًا أو ساخطًا، لكنه يدفعه. وبهذا الثمن يمكن على الأقل وضع حدا لاستمرار النزاع ووضع حد لما ينتج عنه من انخفاض في إنتاجية المتنازعين وتبديد لطاقاتهم الإنتاجية.
ويستطيع المتخصصون في علوم أخرى كالاجتماع وعلم النفس أن يحدثونا عن مفاهيم أخرى في إطار فوائد للطلاق كتحقيق حرية الاختيار وتحقيق التوازن النفسي أو غير ذلك. وقد يطلبون من التحليل الاقتصادى حساب قيمة لتلك الفوائد. بتحليل تكلفة الطلاق الاقتصادية إلى عناصرها وسنجد أن من الممكن تقسيم تلك العناصر إلى تكاليف مباشرة وغير مباشرة.
ومن زاوية معينة، يتحمل أطراف النزاع نصيبًا من الأعباء، ويعتبر ما يتحملونه عبئًا على المجتمع فى الوقت ذاته، فأعباء المجتمع هي في النهاية مجموع الأعباء التى يتحملها أفراده. وتشمل التكلفة بعناصرها هذه تراكمات تحدث قبل إنمام الطلاق القانوني، ومضاعفات تتولد بعده عبر الزمن، فهى ليست فاتورة ثابتة القيمة.
وتبلغ تكاليف الطلاق الرسمية في مصر، التي تتحملها الخزانة العامة للدولة جراء حالات الطلاق نحو 13 مليار و 750 مليون جنيه تقريبًا؛ من مصروفات التقاضي، ومرتبات القضاة، والنيابة العامة، والخبراء ، والمستشارين ، والعاملين بالنيابة العامة من سكرتارية وموظفين وإداريين، إضافة إلى تكلفة الحراسات الأمنية الضرورية للمحاكم أثناء نظر هذه القضايا، وأثناء تنفيذ الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية وخاصة قضايا قائمة المنقولات، والنفقة، ومصروفات المحاكم، وأتعاب المحامين.
ويُقدر متوسط الأجر الشهري للقاضي بنحو سبعة آلاف جنيه، اعتبارًا أن عدد ساعات عمل القاضي تبلغ 200 ساعة شهريًا؛ تشمل وقت الجلسات والمداولات، ونظر الدعاوي، والاطلاع على القوانين بكافة أشكالها؛ ما يعني أن كل ساعة تُقدر بنحو 35 جنيهًا مصريًا.
وبالنظر إلى قضايا الأحوال الشخصية مثل. قضايا الخلع والطلاق، والنسب، والنفقة، وغيرها؛ نجدها تستغرق مع القاضي نحو عشر جلسات في المتوسط، وعلى اعتبار المدة الزمنية المستغرقة للنظر في القضية هي ساعة واحدة؛ فإن تكلفة القضية الواحدة نسبة إلى القاضي، تُقدر بنحو ٢٥٠ جنيه، علاوة على أتعاب المحامين التي تتحملها وزارة العدل بالنسبة للمواطن غير القادر، على توكيل محام عنه أو الممتنع عن توكيل محام عنه؛ إذ تضطر المحكمة في هذه الحالة إلى تعيين محام عنه طبقاً للقانون و الدستور.
ومن التكاليف غير المباشرة للطلاق التي تتكبدها الدولة؛ التدهور الوظيفي وانهيار كفاءة العامل بعد انفصاله عن زوجته، أو بعد تفكك أسرته. إذ قدرت دراسة خسائر الموظف العام بعد الانفصال بنحو 1040 جنيه شهريًا، وخسائر الزوجة المطلقة في عملها بنحو 572 جنيه شهريًا، كما يعمل كلا الزوجين بأقل من 50% من طاقته العملية وكفاءته الإنتاجية؛ وتبلغ جملة تكاليف الطلاق المباشرة التي تتحملها الدولة بنحو 17 مليار و850 مليون جنيه مصري، مضافًا إليها ضعف هذا المبلغ خسائر غير مباشرة؛ اعتبارًا أن قضية الطلاق الواحدة تبلغ تكاليفها المباشرة وغير المباشرة نحو 298 ألف و 200 جنيه تقريبًا؛ ليصبح إجمالي تكاليف الطلاق في مصر نحو 35 مليار جنيه تقريبًا.–
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا