ربما هي ومضة أمل في عالم اتشح بالسواد حزنا وألما للإنسانية الفقيدة التي تم اغتيالها غدرا وخيانة مع سبق الاصرار والترصد بمعرفة أطراف معلومة للجميع وعلي رؤوس الأشهاد.
وقد أثلج صدور شعوب وأحرار العالم قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات توقيف واعتقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” ووزير دفاعه السابق ” يوآف جالانت”، واعتبروها خطوة للأمام نحو إقرار عدالة أممية غائبة ، وإستعادة الثقة في المؤسسات الدولية ،رغم قتامة المشهد المأسوي بكافة أبعاده وتداعياته ،ورغم المواقف الدولية المتخاذلة تجاه ممارسات الاحتلال الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة وممارساته الإجرامية في لبنان وسوريا والتي فاقت حدود العقل والمنطق ومن قبلها حدود الإنسانية التي تجرم قتل وإبادة وتشريد الأبرياء والمدنيين وتدمير البنية التحتية تحت أكذوبة الدفاع عن النفس!.
ومع اليقين التام بعدم إحتمالية تنفيذ أمر الاعتقال لكن القرار جاء كرسالة تاريخية وإنجاز أممي مهم يجب أن يستثمره المجتمع الدولي نحو اتخاذ خطوات فاعلة لوضع حد لهذه المجازر ووقف هذه الجرائم وإقرار حق الفلسطينيين وأهل لبنان في المقاومة المشروعة والصمود حتي عودة حقوقهم المسلوبة.
وأتفق تماما مع من يرون أن القرار خطوة تاريخية نحو تحقيق العدالة وإنهاء الإفلات من العقاب وربما يحدث تحول كبير في كيفية التعامل مع جرائم الحرب،ويجب علي المجتمع الدولي استثماره والبناء عليه ،والقيام بمسؤولياته الأخلاقية تجاه هذه الانتهاكات المتكررة للقوانين الدولية والقوانين واللوائح الإنسانية.
وقد أكدت المحكمة وجود أسباب منطقية تبرر اتهام “نتنياهو وجالانت” بتنفيذ هجمات استهدفت المدنيين، واستخدام التجويع كسلاح حرب، إلى جانب ارتكاب أفعال غير إنسانية مثل القتل والاضطهاد بحق الشعب الفلسطيني الأعزل.
واستندت الاتهامات إلى تقارير وشهادات توثق انتهاكات حقوق الإنسان خلال العمليات العسكرية في غزة والضفة الغربية..
وهذا يمثل تحولا كبيرا في كيفية التعامل مع الجرائم الدولية، خاصة بعد ثبوت التهم الموجهة لبعض القادة الإسرائيليين بارتكاب جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية،كما أنه يفتح الطريق لضم أطراف أخري من جيش وحكومة الاحتلال.
ولا ريب أن القرار جاء ضربة قوية للكيان الصهيوني ولداعميه ولطمة علي وجوههم ،بعد أن بلغت القلوب الحناجر وبلغ السيل الزبا، ويؤذن بنهاية عصر المجرم “نتانياهو” وعصابته الحاكمة،ويمهد لأسباب عزله بعد محاولاته المستمرة لتحدي المجتمع الدولي وإصراره على البقاء فى السلطة.
كما يري سياسيون ومراقبون أن هذا القرار يضعُ إسرائيل لأول مرَّة فى دائرة إتهام دولية، ويمثل ضغطاً كبيراً حاضراً ومستقبلاً على دولة الإحتلال الإسرائيلي ، بصرف النظر عن تنفيذه أم لا، لأن من المؤكد أن القرار من شأنه أن يمحو السردية الإسرائيلية التى دائما ما كانت تتعامل بها كسلاح لجذب تعاطف الرأى العالمى، وكانت تسخر لها المليارات من الدولارات بل وظف اللوبى الصهيونى الوسائل الإعلامية العالمية والدولية لصالح تعزيز هذه السردية الخبيثة منذ 1948.
كما يرون أن هذا القرار يمثل دفعة قوية نحو الانتصار لمبادئ العدالة الجنائية الدولية وانتصار للقضية الفلسطينية التي لطالما دفعت فاتورة باهظة الثمن من دماء أبنائها الشهداء من أصحاب الأرض للحصول على الحد الأدنى من الحق الإنساني والوجودي في إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وهو رسالة للمتواطئين أيضا مع الكيان الإسرائيلي الغاصب بصلفه وعناده وتجبره،ويعيد الثقة النوعية للإرادة الدولية وربما يهييء المناخ لعالم يتشكل من جديد، بعيدا عن قوي الهيمنة والنفعية المطلقة.
وبين الواقع المر وتحقيق المستحيل يبقي السؤال الأهم هل من الممكن أن يري أبناء المعمورة نتنياهو ماثلا أمام المحكمة وأن ينال جزاء ما اقترفته يديه الآثمة وثلة من أعوانه ومناصريه؟!.
في تقديري أنه لو أفلحت المحكمة الجنائية الدولية في تفعيل قرارها وإلزام دولها الاعضاء بالقبض على مجرمي الحرب وتسليمهم للعدالة ،ستظل محورا مهما في تحقيق العدالة، من خلال إجراءاتها العادلة والموضوعية، مما يساهم في حماية حقوق الإنسان وتعزيز السلام في المنطقة،وبمختلف أنحاء المعمورة.
إن تطبيق القرار، يتطلب تحركا فاعلا من الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية وتصحيح مواقفهم، ويجب ألا يكون مجرد حبر علي الورق ،ويجب أن يكون رادعا، من شأنه أن يحقق جزءا من العدالة وأن يكون بمثابة حائط الصد أمام كل من تسول له نفسه تخطي قواعد القانون الدولي الإنساني ومبادئ العلاقات الدولية القائمة على احترام خصوصية البلدان وعدم التدخل في شؤون الآخر وعدم تخطي قواعد الحرب المعهودة وفقا للقانون الدولي، لاسيما وأن محكمة العدل الدولية، كانت قد أمرت مرارا في وقت سابق ، وآخرها في 24 مايو المنصرم بوقف الهجوم الإسرائيلي العسكري “فورا” في رفح، إلا أن القرار لم يلق قبولا لإسرائيل ولم يمثل رادعا لهم.
وقد آن الأوان أن يتحمل المجتمع الدولي عقبى استمرار الجرائم الإسرائيلية والتي تستهدف توسيع نطاق الحرب في المنطقة والتي ستكون لها انعكاسات ومردودات شديدة الوطأة إقليميا ودوليا، وعلى كافة المستويات.
ورغم ما أثاره قرار الجنائية الدولية من ردود فعل عالمية واسعة، ينتظر العالم ماذا سيحدث الآن بعد إصدار مذكرات الاعتقال بحق مجرمي الحرب.
ووصف بعض أساتذة القانون الدولي قرار المحكمة الجنائية الدولية بأنه تطور تاريخي والقانوني والأكثر دراماتيكية في تاريخ إسرائيل،مؤكدين أن الدول الـ 124 الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية، والتي تضم معظم أقرب حلفاء إسرائيل، ستكون ملزمة قانونا باعتقال “نتنياهو وجالانت” إذا كانا موجودين على أراضيها”.
ومن المتوقع وبعد إصدار مذكرة الاعتقال، أن ترسل المحكمة الجنائية الدولية طلبات التعاون إلى الدول الأعضاء، ولا تمتلك المحكمة قوة شرطة خاصة بها للقيام بالاعتقالات، ولكنها تعتمد على الدول الأعضاء في تنفيذها، وهو ما يجب أن تلتزم به الدول الأطراف قانونا.
وقد واجه القادة السابقون الذين صدرت بحقهم أوامر اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية قيودا على قدرتهم على السفر، حيث لم يتمكنوا من المرور عبر البلدان الملزمة قانونا باعتقالهم.
ويذكر أن قضاة المحكمة الجنائية الدولية أصدروا 56 أمر اعتقال، مما أدى إلى اعتقال 21 شخصا ومثولهم أمام المحكمة، ولا يزال 27 شخصا آخرين طلقاء، وتم إسقاط التهم الموجهة إلى 7 أشخاص بسبب وفاتهم.
ويبقي ردود أفعال الولايات المتحدة المتوقعة هو الأهم في حسم هذا الجدل علي أرض الواقع ،خاصة بعد إعلانها صراحة رفض قرار المحكمة الدولية، لكنها ستجد نفسها معزولة ومنبوذة عندما تستمر في الدفاع عن إبادة جماعية وعن ذبح وإبادة الشعب..
وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن، قد قال في بيان له يوم الخميس عقب صدور القرار:”إن إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق “نتنياهو” ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق “يوآف غالانت” “مثير للغضب”، وانتقد المحكمة لمقارنتها تصرفات إسرائيل بعد هجوم حركة حماس عليها في 7 أكتوبر 2023 بتصرفات حماس.
وقال : “اسمحوا لي أن أكون واضحا مرة أخرى: أياً كان ما قد تعنيه المحكمة الجنائية الدولية، فلا يوجد تكافؤ بين إسرائيل وحماس، وسنقف دائما مع إسرائيل ضد التهديدات لأمنها”!.
ومن جانبه قال جورج بابادوبولوس، المستشار السابق للرئيس ترامب: “إن الولايات المتحدة الأمريكية ليست دولة موقعة وليست طرفا في المحكمة الجنائية الدولية، ولهذا ليست لديها أي التزامات واجبة على الحكومة الأمريكية بموجب ذلك”.
وتابع: “كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أطراف في الجنائية الدولية فإن دولة المجر على سبيل المثال ورئيس وزرائها صرح أنه لن يتم القبض على نتنياهو إذا ما زار بلدهم، وهم يرغبون في دعوته لزيارة أوروبا، كذلك ألمانيا أعلنت نفس الموقف بعدم القبض على نتنياهو”!.
ومع عودة ترامب إلي البيت الأبيض بكل علامات الاستفهام حول سياساته الداخلية والخارجية يتطلع كثيرون من أبناء المعمورة لتنفيذ وعوده والعمل علي تخفيف حدة التوتر وإحلال السلام في الشرق الأوسط ونزع فتيل النزاعات ووقف هذه الحرب غير العادلة..
وعلي الجانب الآخر ينتظر الكيان الصهيوني دعما إضافيا لتلك السياسات التوسعية والاستيطانية والعمل علي إضعاف المقاومة وتصفية القضية الفلسطينية وتنفيذ مخطط “صفقة القرن” ، وإحياء فكرة التهجير القسري لأهل غزة ووأد أحلام وتطلعات أهل فلسطين في دولة مستقلة ووطن آمن.
ولم لا وقد حقق الكثير من مطالب الكيان الإسرائيلي إبان فترة رئاسته الأولي واتخذ قرارا باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل وأمر بنقل السفارة الأمريكية إليها.
ووفقا لمؤشرات الواقع وردود الأفعال ،فأتصور أن إقرار العدالة الدولية ومحاكمة مجرمي الحرب والتوصل إلي وقف إطلاق النار والتهدئة وتحقيق الهدنة المؤقته لالتقاط الأنفاس ،ولو لفترة زمنية فكرة محددة مرهون بموقع دولي فاعل يبدل عقيدة وقناعة الأطراف الغربية الداعمة للكيان والتي توفر له الدعم الفني والمالي والمعنوي والغطاء الدولي لتلك السياسات التوسعية الخبيثة.. كما أنه مرهون بقناعة أهل الصمود وثقتهم في وعده الحق و”الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون” صدق الله العظيم.