من الظواهر الاجتماعية التي اخذت في الانتشار في الحقبة الأخيرة ما يسمى بأزمة الهوية وصراع الأجيال؛ حيث صنفت كظاهرة اجتماعية ثقافية لها العديد من السلبيات؛ نظرًا للاختلاف بين جيل وآخر كل منهم يحمل الهُوِيَّة التي تتسق مع ما يؤمن به من قيم وعادات وتقاليد، ونظرته للمستقبل قد تختلف وفق ما يتوافر له من مقومات الحياة، وهنا نرى جيل يتمسك برأيه استنادًا على ما وصل إليه من إنجازات يرى أنها حققت احتياجاته وحافظة على مكتسباته، والجيل الآخر يواكب التغيرات ويتطلع للمستقبل وجودة الحياة.
والثابت لدينا أن الجيل السابق يحاول بكل قوة أن ينقل للجيل اللاحق ما امتلكه من ثروات ثقافية واجتماعية ومادية كي يستكمل مسيرته وفق رؤى قد تكون متباينة نظرًا للعديد من العوامل والمتغيرات التي أثرت على مفردات الحياة كاملة، وهنا تبدأ ملامح الخلاف والتوجيه؛ حيث تطفو على السطح مفاهيمًا جديدة وأساليب حياة وأنماط معيشة وتداخل بين الثقافات وتدفق معرفي عبر التقنية التي جعلت العالم قرية صغيرة، وهذا في كليته يصعب أن تتقبله أجيال عاشت فترة من الهدوء والسكينة والنظامية ولها نمط حياة يبدو في كليته استاتيكي، ثابت لا يجاري المتغيرات ورافض لها بكل قوة.
وفي المقابل نجد أن الجيل الحالي كون مفاهيمه في ضوء المتغيرات والمستجدات والحداثة التي غزت العالم بأسره؛ فصار التواصل لحظيًا والحصول على المعلومات والبيانات في جزء من الثانية والتعرف على مجريات الأحداث أثناء حدوثها، كما أضحى الزخم المعرفي وتطور الأعمال والمهام تحديًا كبيرًا لا يستطيع الإنسان أن يفي باحتياجاته بصورة كلية؛ فنرى أن العمل ومسارات السابق وفق ماهية التنافسية جعلت الجميع لا يجد وقتًا للترفيه والتواصل الاجتماعي المباشر، وهذا ما جعل الأسرة الصغيرة تشعر بالتفكك والتباعد، ناهيك عن الأسرة الكبيرة أو ما تسمى بالعائلة؛ فكل إنسان يعاني ضغوطًا يصعب أن يتحملها لفترات طويلة أو مدى الحياة؛ فنجد كثيرًا من البشر يعاني الإحباط ويشعر بأن الحياة صارت تشكل بوتقة للسباق الذي لا ينتهي.
وفي ضوء ما سبق نجد أن لغة الحوار بين الأجيال أضحت تشكل تحديًا غير مسبوق؛ فلكلِا فكره وقناعته وتوجهاته ورؤيته نحو المستقبل القريب والبعيد، وهذا ما أوجد ماهية الصراع بين الأجيال، وهذا للأسف لم يقف عند حيز الأسرة، بل تسلل لمناحي الحياة المختلفة العلمية والعملية، وهو ما أنشأ فلسفة الجدال الذي يترتب على وجهات النظر المختلفة بين الجليلين.
ونتفق على أن النظام الأيديولوجي الذي يعبر عما يحمله الإنسان من أفكار ومعتقدات وقيم قد تغيرات ولو تغيرًا جزئيًا من جيل لآخر، وهو ما أدى لتأجيج الصراع بين الأجيال، وأصبح التقابل بينهما ضربًا من المستحيل؛ فالجيل السابق يتمسك بممارسات وافعال تؤدي لمزيد من الترابط الإنساني وتحقق المصلحة العامة، والجيل الحالي يتمسك بأفعال وممارسات باتت تحكمها في الأغلب النفعية والمصلحة الخاصة.
وهنا لا نحاول عقد مقارنة بين الأجيال؛ لكن نريد أن نصل لصيغة توافقية تحد من صراع الأجيال وتسهم في تعزيز الهُوِيَّة لدى الشباب، وتجعله قادر على أن يجمع بين الحسنيين، ومن ثم يستكمل مسيرة البناء والإعمار ويدحر كافة المحاولات التي تستهدف النيل من قيمه ومن ثقافته الأصيلة ومن حضارته المتجذرة.
وباتت هنا المراجعة طريقة فاعلة في تقليل الفجوة بين الأجيال، والمقصود بالمراجعة هنا المحاولة الصادقة لاستيعاب كل طرف للطرف الأخر وبالطبع ينبغي أن تتأتى الرغبة والإقدام من الجيل السابق لللاحق، وهذا يعد بمثابة مبادرة للتصالح التي تبدأ بالتوافق على صحيح القيم وما يرتبط بها من سلوكيات وممارسات وأداءات يتقبلها الجميع؛ فليس هنالك ثمة تباين بين ماهية الصدق ولا المحبة ولا التعاون والتكافل والايثار وغيرها من القيم التي نؤمن بها كمجتمع محافظ، ومن ثم يصبح التلاقي على أرض مشتركة صلبة لا جدال ولا خلاف حولها.
وفي المقابل لا نختلف حول الخُلق غير القويم من كذب وافتراء وخيانة وسرقة وخلاف ذلك من أمثال الخُلق الذميم والعواقب والجزاءات المترتبة عليها، وهذا ما يجعلنا نسير في اتجاه الخير ونبتعد عن مسارات الشرور، ونتوافق على صحيح الممارسة ونجعل هذا النسق بمثابة معيار حاكم لكل ما نقوم به من ممارسات، بغض النظر عن التباين في الأسلوب أو الطريقة أو آلية التفكير التي تؤدي لذلك.
وهنالك أمر يتوجب أن تتقبله الأجيال السابقة، والذي يكمن في حجم الضغوط النفسية التي سببها الانفجار المعرفي جراء التسارع التقني؛ فقد باتت التحديات والمهددات لا حصر لها وتؤثر على الصحة النفسية والعقلية والبدينة لدى الإنسان وتجعل منه شخصية مختلفة تمامًا عن آبائه وأجداده، ومن ثم تؤثر على ممارساته التي ينبغي أن نعذره عليها ولا نلقي عليه باللوم من آن لآخر، ونضعه في قفص الاتهام؛ فهو في أشد الاحتياج للمعاونة والمآزرة والأخذ بيده كي ينجو من أثر الضغوط التي أشرنا إليها.
ولو نظرنا بتأن إلى التغيرات التقنية التي أثرت على صورة العلاقات الاجتماعية وطرائق التواصل؛ فقد أضحت أدوات الذكاء الاصطناعي مرعبة في شتى الممارسات والأداءات التي تقوم بها، وفي المقابل حققت بعض الجوانب الإيجابية التي أسهمت في رفاهية الحياة، وجعلت من هنالك تطلعات للأجيال الحالية تجاه المستقبل لا متناهية.
ولمعالجة أزمةِ الهويّةِ لدى الشباب وصراع الأجيال، علينا الاهتمام بالثقافة المستدامة وأساليب وطرائق التربية والتعليم، وحل المشكلات بصورة بناءة وتوفير بيئة شاملة حيث يعمل ذو الخبرات والمهارات والخلفيات المتنوعة معًا لتحقيق أهداف مشتركة واستيعاب الشباب، وفي المقابل التفهُّم الواعي من جيل الشباب للدورِ المهم الذي يقوم به الكبار من رعاية وإكساب خبرة وتأمين المستقبل العلميّ والوظيفي.
ومما لا شكّ فيه أن التواصل بين الأجيال والحفاظ على هويّة موحّدة وتقبل الثقافات المغيرة، مسألة مهمّة في ظلّ تحدّيات الثقافات الوافدة والمتغلغلة بوسائل ناعمة فرضت نفسها علينا، دون الانعزالية والانغلاق علي الذات، مع الاهتمام بتعزيز وتنمية الهوية والثقافة المجتمعية وتقليص الفجوة بين الأجيال وحل أسباب الصراع، والاهتمام ببرامج تنمية الوعي باحتياجات كل جيل وأهمية استيعابه للآخر والتقابل بمنتصف الطريق، وإحداث نوع من التوازن الفكري؛ فمن الحكمة المواجهة والتخطيط لبناء جيل سليم متوازن وفاعل في بناء مجتمعة المحافظ والمتماسك؛ فمن خلال الاستيعاب والتوازن والعقلانية التي تحكم العلاقات بين الأجيال تكون منطلقًا إيجابيٍا لرسم هوية شبابنا، بعيدًا عن تعقيدات الواقع والفكر المنحرف.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر