بينما تستمر إسرائيل في ارتكاب المجازر كل يوم في غزة ولبنان، تقتل المدنيين وتدمر المباني فوق رؤوس ساكنيها، تتحدث أمريكا عن تفاؤلها بقرب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وفي حين تنفرد المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن باستخدام الفيتو ضد إرادة أعضاء المجلس الـ 14 لمنع صدور قرار بوقف الحرب في غزة، تتناقل وسائل الإعلام تصريحات كاذبة عن مسئولين أمريكيين يأن الأطراف أصبحت أقرب من أي وقت مضى للتوصل إلى تسوية لإنهاء الحرب.
وبينما تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت على خلفية جرائم الحرب في غزة، يطلق الأمريكيون بيانات غاضبة ساخطة لإرهاب قضاة المحكمة، ويدعون إلى معاقبتهم، لأنهم تجرأوا على معاملة إسرائيل كدولة خارجة على القانون الدولي، ويفسدون بذلك الجهود التي كانت قد أوشكت على إيقاف الحرب وإحلال السلام.
هذه اللعبة الأمريكية القذرة عشناها مرات عديدة على مدى أكثر من عام في حرب الإبادة الجماعية على غزة، ونعيشها اليوم في خضم العدوان الوحشي على لبنان، ودائما كان الهدف منها إشاعة حالة من التفاؤل الكاذب، كي تتعلق الأنظار بالأمل الخادع في أخبار الاتصالات والتحركات، حتى يتم تمرير الجرائم، وإتاحة الفرصة لجيش الاحتلال لينفذ بهدوء أقصى ما يستطيع من تخريب لأسباب الحياة، وتدمير للعمران والبنية التحتية في كل شبر من الأرض يصل إليه.
ورغم محاولات التمويه الأمريكية شهد العالم أجمع بأن ما تفعله إسرائيل ليس حربا بالمعنى المتعارف عليه للحروب، وإنما إبادة شاملة غاشمة للبلاد ومن عليها من بشر وحجر، يفوق كل ماعرفه تاريخ الإبادات، من حملات المغول إلى قنبلة هيروشيما ونجازاكي، وأمريكا شريك أصيل في هذه الإبادة، ليس بالسلاح والعتاد والمال والجنود فحسب، وإنما أيضا بالتخطيط والتدبير والحماية، فهي رأس المشروع الصهيوني في أرضنا العربية، ولاتريد للحرب أن تتوقف حتى تكمل إسرائيل مهمتها في إبادة الشعب الفلسطيني، أو طرده خارج أرضه.
والحقيقة التي أثبتتها التجارب تؤكد أن رفض اتفاق وقف العدوان هو قرار أمريكي قبل أن يكون إسرائيليا، بصرف النظر عما يتردد عن خلافات ظاهرية بين بايدن ونتنياهو، ولو أرادت أمريكا إيقاف الحرب لأوقفتها فورا، وقد اعترف بايدن بأنه يرفض وقف الحرب وفقا لمسودة (مبادرة الاتفاق) التي كان قد أعلنها، ويفضل ـ بدلا من ذلك ـ التوصل إلى هدنة قصيرة يتم خلالها إطلاق سراح الرهائن، مقابل إدخال المزيد من المساعدات إلى غزة، وإنهاء الحرب مع حزب الله في لبنان باسرع مايكون، والهدف الواضح من هذا التحول أن تتفرغ إسرائيل لاستئناف الحرب على غزة وتنفرد بالمقاومة، فتقضي عليها قضاء مبرما، وتحقق النصر الكامل الذي وعد به نتنياهو.
هذا هو الرئيس الديمقراطي الذي يزعم أنه يؤيد حق الشعب الفلسطيني وحل الدولتين، أما الرئيس الجمهوري القادم دونالد ترامب فهو الأسوأ، ليس بالنسبة لغزة وفلسطين ولبنان فحسب، وإنما للأمة العربية جمعاء، وبالأخص لدول الجوار الإسرائيلي، فقد أعلن خلال حملته الانتخابية أنه يريد أن يتخذ أعظم قرار في تاريخ إسرائيل، لتوسيع رقعتها الحالية بضم الضفة الغربية، أوعلى الأقل البؤر الاستيطانية فيها، وقال إنه تباحث مع نتنياهو مرات عديدة، ونصحه بألا يقبل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حاليا، وأن يسرع في تنفيذ المهمة التي يقوم بها للقضاء على المقاومة قضاء مبرما، وتغيير الأوضاع في المنطقة باسرها، ثم يعلن إنهاء الحرب.
وتشير المقدمات إلى أن ترامب سوف يفعل لإسرائيل مالم يفعله رئيس أمريكي من قبل، وأجندته المعلنة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية تتوافق تماما مع ما يريده اليمين المتطرف في تل أبيب، وهو باختصار تصفية القضية، وتغيير وجه الشرق الأوسط وتوازناته، لتكون الهيمنة الكاملة فيه لإسرائيل.
ونشرت شبكة (بي بي سي ) البريطانية عدة تقارير معلوماتية عن المسئولين القادمين الذين رشحهم ترامب لشغل المناصب العليا في إدارته، وكلهم من اليمين المسيحي المتعصب لإسرائيل والمشروع الصهيوني، ومن أشهرهم مايك هاكابي المرشح ليكون سفيرا للولايات المتحدة في إسرائيل، وهو “مسئول معمداني رافض لفكرة حل الدولتين، ومؤيد بشدة لضم الضفة الغربية كاملة إلى إسرائيل، وتهجير سكانها الفلسطينيين إلى الأردن”، وقد تحدث في مقطع فيديو نشره موقع (باز فيد) بشأن “إمكانية إنشاء دولة فلسطينية على أراض من مصر أو سوريا أو الأردن”!!!
وغني عن البيان أن هذا (الفجور الترامبي) سوف يؤدي تلقائيا إلى انفجار هائل في المنطقة، فالعالم العربي لايمكن أن يستمر على هذا الصمت إلى ما لا نهاية، وقد تهتز الأرض بزلازل مدوية نتيجة الضغط الدائم والمظالم المتصاعدة، وتكون هذه الزلازل أسبق من خطط ترامب ونتنياهو في تغيير الشرق الأوسط إلى عكس ما يريدان، وقد يضطر سمسار الصفقات في النهاية إلى فرض الدولة الفلسطينية لاحتواء الموقف، وحمل إسرائيل على الاعتراف بها جبرا.
المظالم الكبرى تحدث تغييرات كبرى، وقد رأينا كيف تغيرت شعوب أوروبا وأمريكا تجاه إسرائيل خلال أشهر معدودات، بعدما صدمتهم جرائم الإبادة التي يرتكبها جيش الاحتلال، فلم يعد اليهود هم الشعب المظلوم، بل أصبحوا هم الشعب الظالم، ولم يعودوا ضحية الهولوكوست، بل صاروا هم من يصنع الهولوكوست، وهكذا سوف يخرجون من العالم كما دخلوه، وسيخرجون من الباب نفسه الذي دخلوا منه، باب المظلومية التاريخية، فقد دخلوه (كضحايا) بمظلومية ألمانيا النازية لهم، وسيخرجون منه (كظالمين) بمظلومية الشعب الفلسطيني على أيديهم.
لن يبقى شيء على حاله، من يدري؟ لعل التآمر الأمريكي المشفوع بالصمت الرسمي على جرائم الإبادة ينقلب وقودا للطوفان القادم، وصدق الله العظيم: “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لاتعلمون”.