“ترثي العين كل مفارق، ويحزن القلب على كل غالي، أما الأرحام فلا تبكي سوى أهلها”
…بينما أعراض الهجر تنضح من ملامحها، وابتسامتها العريضة مرسومة كأحمر الشفاه على ثغرها، حدثتني عن ضرورة النسيان.
بادلتها ابتسامتها كمرآة وأنا أجيبها:
المؤمن الحق لا يكفر، مهما ادعى الإلحاد، مهما ضيعته الطرق، في عمقه يقين ثابت يعود به إلى حقيقته مرة أخرى، وأنا آمنت به.
-همست بنبرة معاتبة: أنت من رفضتيه.
وضعت كفي فوق كفّها، وفي عيني ارتسمت أصابعه الباردة تحيط بأصابعي، خشيت عليه من كلمة أقولها ولا تمكني منها الدنيا، فأنا أعلم ترددات الكلمة في الوجد وقسوة الخذلان والغدر.
لم يكن هناك افتراضا أنه يتلاعب ، قد بدا كل شيء حقيقي جداً ، كنت أفهم جيدا قسوة رفضي، فقد رآه انتقاصا، ماجعله يزرع نفسه بقوة في كياني حتى لو تنافى هذا مع ثوابته، لم أشك لحظة أنه سيتخلى.
بالرغم من تعمده جرحي، كان لدي شعور قهري يدفعني لمد يدي إليه، يجعلني رغم قبح تصرفاته، ألتمس له الأعذار ، لا أبادله إهانة بإهانة.
كنت كالمقامر أراهن على شيء غامض يجذبني له، يجعلني أراه رغم اختلافنا الجذري يشبه روحي، لديه نفس جرحي – فنحن ننجذب بالسليقة لمن يحملون جرحنا-
كنت أشعر أنه مني، هذا الشعور كان يربكني، يجعل لدي رغبة ملحة في الاهتمام المبالغ به، وفي اللحظة نفسها أحساس مؤلم يدفعني للهروب منه، كأن جسدي فقد تناغمه وبات جهازي العصبي يرسل إشارات متضاربه.
سأخبرك سراً بعد انفصالنا عانيت من نزيف أصابني بالوهن، كنت أظن أن موعد حيضي تغير لكن الأمر خرج عن السيطرة فذهبت لاستشارة الطبيب، وأنا بغرفة الانتظار شعرت بدوار فتوجهت إلى الحمام للأغسل وجهي، لاحظت العاملة العجوز اصفراري، دعتني للجلوس بكرسيها، بينما كنت أخرج من حقيبتي ما أعطيه لها، قالت وهي تتفقد ملامحي المجهدة:
ترثي العين كل مفارق، ويحزن القلب على كل غالي، أما الأرحام ياابنتي فلا تبكي سوى أهلها.
عندها عادت لأذني جملة -أنت مني- لطالما شعرت بها لكني ..لم أكن أعلم إلى أي مدى هي متجذرة في روحي.
منذ ذلك الوقت والعديد من الأشياء الغريبة تحدث ، أحلام مزعجة، كثيرا ما استيقظ مفزوعة يتملكني إحساس غامض إنه كان بجواري، أسمع صوته في رأسي، أشم رائحته، أشعر بملمس يده فوق جلدي، ظننت أني أعاني هلاوس من فرط تعاطي الكحول ، فامتنعت عنها تماماً ، لكن لا شيء تغير، في الوقت الذي أظن فيه أن الأمر انتهى، يعود من البداية وكأنه كان بالأمس.
صدمتي فيه أخرستني، لفترة طويلة كنت أجتر التفاصيل، ولا يتردد في عقلي سوى استفهام استنكاري عقيم هل أنا عديمة الإحساس لدرجة لا أستطيع فيها أن أفرق بين المشاعر الحقيقة والمزيفة؟
كنت طوال الوقت أبحث عن أجابات لعشرات الأسئلة التي تأكلني…حتى استسلمت، اعتدت عض قلبي، والأصوات التي لا تكف عن الشجار في رأسي، أصبحت أفضل الجلوس أمام النافذة، أنظر للسماء طوال اليوم بدون هدف، إن سألتني ماذا تريدين منه، سأجيبك بدون تفكير وبغض النظر عن جميع الاراء المنفصمة داخلي: كنت أريد أن نكبر معا.
أشعر أن هناك جزء مبتور من روحي فيه ،منذ اللحظة الأولى وأنا أعرفه بالغريزة ، وكأننا مررنا به سابقا بنفس الخطوات،بنفس الأفعال، بنفس التراتبية، حتى هو كان يدهشني، يعرف أشياء خاصة تثير الريبة في نفسي.
- بنبرة مختنقة قاطعتني التعلق قاس جدا
اغلقت يدي على أصابعها كما كنت أفعل معه، واستدركت لطالما كنت أجيد التخلي عن الأشياء وأنا في أشد حالات إدماني عليها، النكوتين،الكحول، المال، الأشخآص ، العلاقات، النجاح، الأمان، أستغني عن كل شيء يستعبد روحي، ويجرح كبريائي مهما بلغت قسوة ذلك على نفسي .
ما يحدث هنا أكبر مني، بالرغم من قدرتي على الحصول على كل ما أريد بمواصفات تناسب ذوقي وأكثر إلا أنني في كل مرة أهزم أمام التفاصيل الصغيرة التي كنت استمرّ في جمعها بشغف كمن يوقن حتمية هذا الجزء من الحكاية، رائحة لحيته المشبعة بالدخان، برودة يديه، إصراره على الأكل من طبقي، نظراته لي، الطريقة التي يمسح بها الحمرة من على شفتي، نكاته التي لا أفهمها.
تتجسد الأحداث على صفحة السماء كسرب طيور في الأفق ، بعضها غرابيب سود تمزق مناقيرها قلبي بوحشية، قليلها حمامات بيضاء تمنح روحي السلام، تجعلني أصدق قلبي رغم كل الوقائع المنافية، لم أفهم أبدا ما حدث، لا لماذا أتى ولا لماذا ابتعد، هناك شيء لا يريحني، لطالما كان لدي يقين أن لا أحد يدخل حياتي هباء، فأنا امرأة علمتها الحياة بمنتهى الوحشية أن العلاقات دين ثقيل جدا -لذلك أفضل دائماً البقاء في مساحتي الخاصة، أحيد الناس قدر استطاعتي- ، كان وجوده يشعرني بالتئام روحي،