شهدت سوريا يوم الأحد ٨ ديسمبر 2024، سقوط نظام بشار الأسد بعد تطورات متسارعة بدأت بسيطرة قوات المعارضة على مدينة حمص دون مقاومة تُذكر، تبعها دخولهم إلى العاصمة دمشق وسط غياب شبه كامل لقوات النظام، ثم أعلنت المعارضة تحرير دمشق وإنهاء “عصر الظلم”، وذلك بعد مغادرة بشار الاسد سوريا وهروبه إلى روسيا، وهو ما أحدث فراغا قياديا، وفي هذا الإطار أعلن زعيم المعارضة السورية أبو محمد الجولاني إن المؤسسات العامة ستظل تحت إشراف رئيس الوزراء السابق محمد الجلالي حتى يتم تسليمها، ومن جانبه، قال رئيس الحكومة السورية، الدكتور محمد غازي الجلالي، إنّه مستعد للتعاون مع الجميع وأي حكومة يختارها الشعب السوري.
توالت ردود الأفعال حول سقوط نظام بشار الأسد، حيث قال بايدن إنه يتابع مع فريقه الأحداث غير العادية في سوريا، بينما قال ترامب إن روسيا تخلت عن بشار الأسد مما أدى لسقوطه، وأضاف أن موسكو لم يكن ينبغي لها أن تحميه من الأصل، وأنها فقدت الاهتمام بالأمر بسبب الحرب في أوكرانيا التي ما كان ينبغي أن تبدأ أصلا، وأما عن تركيا فقد حثّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الأطراف الإقليمية والدولية على ضمان “انتقال سلس” للسلطة في سوريا، وأكد على ضرورة العمل بجد مع الشعب السوري لضمان وجود فترة انتقالية جيدة وسلسة، وعدم إلحاق المزيد من الأذى بالمدنيين.
وأكد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أن الشعب السوري هو الذي يجب أن يقرر مستقبل هذا البلد ونظامه السياسي والحكومي، وطالب كافة الأطراف الداخلية في سوريا باليقظة، وكذلك دول المنطقة تجاه تعاطي النظام الصهيوني، وأما عن روسيا فقد طلبت عقد اجتماع طارئ ومغلق لمجلس الأمن الدولي بشأن سوريا .
سقوط نظام الأسد في سوريا سيشكل نقطة تحول كبيرة في موازين القوى الإقليمية، حيث ستسعى الدول الكبرى في المنطقة، مثل إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة إلى إعادة تشكيل استراتيجياتها وتعزيز نفوذها في سوريا، وهو ما سيفتح الباب أمام تحولات جذرية في العلاقات الإقليمية. كل دولة من هذه الدول لها مصالح استراتيجية في سوريا، وهذه المصالح ستكون محركًا رئيسيًا في تحديد أطر التحالفات المستقبلية.
أولا – إيران:
تعتبر إيران أكبر حليف للنظام السوري، حيث كان نظام الأسد يمثل حليفًا استراتيجيًا أساسيًا في إطار مشروعها الإقليمي، وسيشكل سقوط الأسد ضربة قاسية لمصالحها الاستراتيجية، حيث ستفقد نفوذها في سوريا بشكل كبير، وهو ما يعني فقدانها لقاعدة استراتيجية مهمة كانت تتيح لها تعزيز وجودها العسكري والسياسي في المنطقة. وفقدان السيطرة على الأراضي السورية يعني أن إيران ستخسر أحد المحاور الأساسية التي كانت تستخدمها لتنفيذ استراتيجياتها في مواجهة القوى الإقليمية والدولية المعادية لها، مثل السعودية وإسرائيل. بالتالي، ستواجه إيران صعوبة في الحفاظ على موازين القوى التي كانت قد أسستها في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، إن سقوط الأسد سيؤثر سلبًا على قدرة إيران على التنسيق مع حلفائها في المنطقة، مثل “حزب الله” اللبناني والمجموعات المدعومة من إيران في العراق. كانت إيران تستخدم سوريا كممر للإمدادات العسكرية واللوجستية، وبعد انهيار النظام السوري، ستفقد هذا الممر الحيوي، ما يضعف قدرتها على دعم حلفائها بالأسلحة والموارد.
ثانيًا- روسيا:
يمثل سقوط الأسد ضربة كبيرة لمصالح روسيا الاستراتيجية في سوريا، حيث كانت موسكو قد استثمرت بشكل كبير في بقاء النظام السوري، فهي ليست حليفًا عسكريًا فحسب، بل كانت تسعى إلى تحويل سوريا إلى قاعدة استراتيجية لتعزيز نفوذها في منطقة البحر الأبيض المتوسط، حيث إن قاعدتاها العسكريتان في طرطوس وحميميم تمثلان نقطة مهمة في السياسة الروسية لتوسيع وجودها العسكري في المنطقة، وبعد سقوط نظام الاسد ستواجه موسكو تحديًا كبيرًا في الحفاظ على هذه القواعد، ما سيجعلها تبحث عن تفاهمات مع الأطراف الدولية والإقليمية لضمان استمرار وجودها العسكري في سوريا.
كما قد تسعى روسيا إلى التعاون مع تركيا لتنسيق موقف مشترك يضمن استقرار المنطقة ويحافظ على المصالح الروسية، حيث إن تركيا بفضل موقعها الجغرافي المؤثر وعلاقتها مع العديد من الفصائل المعارضة في سوريا، في وضع يمكنها من التأثير في مجريات الأمور. من خلال التعاون مع تركيا، يمكن لروسيا أن تسهم في تشكيل الحلول السياسية والتمسك بوجودها العسكري على الأراضي السورية بشكل أكثر مرونة.
ثالثًا- تركيا:
يشكل سقوط نظام بشار الأسد فرصة كبيرة أمام تركيا، التي كانت الداعم الأول للمعارضة السورية، حيث سيسمح لها بتعزيز نفوذها في مناطق شمال، وشمال شرق سوريا، ويمثل نجاح فصائل المعارضة في تشكيل حكومة جامعة تمثل جميع طوائف الشعب السوري عاملًا حاسمًا في تحقيق استقرار البلاد وضمان المصالح التركية. هذا التوافق سيمكن تركيا من المساهمة في إعادة الإعمار، وتعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع سوريا الجديدة، إلى جانب تسهيل العودة الطوعية للاجئين السوريين لديها، مما سيخفف الضغوط الداخلية على تركيا ويعزز استقرارها الاجتماعي والاقتصادي.
رغم ذلك، يبقى الملف الكردي تحديًا رئيسيًا لأنقرة. مع غياب النظام، قد تسعى القوات الكردية المدعومة دوليًا إلى تعزيز نفوذها في الشمال الشرقي من سوريا، لا سيما في حال استمر الدعم الأمريكي للقوات الكردية، مما يثير مخاوف تركيا من قيام كيان كردي مستقل قرب حدودها. لذلك، ستواصل تركيا مساعيها للحد من النفوذ الكردي عبر تكثيف وجودها العسكري والسياسي في المناطق الحدودية، مع محاولة التنسيق مع الحكومة السورية الجديدة لاحتواء هذه التهديدات وضمان أمنها القومي. في حال فشلت المعارضة في تحقيق التوافق المطلوب وانزلقت في صراعات داخلية، قد تواجه تركيا سيناريو معقدًا يتمثل في استمرار الفوضى على حدودها وموجات لجوء جديدة، مما سيعيق تحقيق مكاسبها. لذلك، يبقى نجاح المعارضة في تقديم نموذج حكم مستقر وشامل هو الضمانة الأساسية لتجنب الفوضى، وتحقيق شراكة استراتيجية طويلة الأمد بين تركيا وسوريا الجديدة.
رابعًا- الولايات المتحدة الأمريكية:
يمثل سقوط نظام بشار الأسد تطورًا كبيرًا في المشهد السوري، ومن المتوقع أن تتبنى الولايات المتحدة موقفًا حذرًا ومتأنيًا لمراقبة الوضع عن كثب. أولى أولويات واشنطن ستكون التعامل مع التهديد المحتمل لخلايا تنظيم داعش النائمة، خاصة أن انهيار النظام قد يخلق فراغًا أمنيًا يسمح للتنظيم بإعادة تنظيم صفوفه في مناطق متفرقة من سوريا. حيث إن الولايات المتحدة، التي قادت التحالف الدولي ضد داعش، لن ترغب في رؤية عودة التنظيم إلى الساحة، مما سيدفعها إلى تكثيف مراقبتها الأمنية وربما زيادة دعمها للقوات المحلية مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تعد شريكًا أساسيًا في مواجهة التنظيم.
إلى جانب ذلك، سيبقى أمن إسرائيل على رأس أولويات السياسة الأمريكية في المنطقة. مع سقوط النظام، قد تنشأ حالة من الفوضى تؤدي إلى تصاعد نفوذ الجماعات المسلحة أو الفصائل المدعومة من إيران، مما يشكل تهديدًا مباشرًا لإسرائيل. من المتوقع أن تواصل واشنطن التنسيق مع حلفائها الإقليميين لضمان استقرار الجبهة الجنوبية لسوريا ومنع أي تصعيد على الحدود مع إسرائيل.
في هذا الإطار، قد تلجأ الولايات المتحدة إلى دعم خطوات تضمن تشكيل حكومة سورية جديدة قادرة على ضبط الأمن وتجنب الفوضى، ومراجعة موقفها الرافض للحوار مع هيئة تحرير الشام، والتي تصنفها منظمة إرهابية، كما ستحافظ على نفوذها في المناطق الاستراتيجية شمال وشرق سوريا. وستركز السياسة الأمريكية على منع أي تحول يمكن أن يهدد أمنها القومي أو استقرار حلفائها في المنطقة، مع تعزيز وجودها كطرف رئيسي في إعادة صياغة مستقبل سوريا.
الخاتمة:
يمثل سقوط نظام بشار الأسد نقطة تحول تاريخية في مسار سوريا، حيث يتيح فرصة حقيقية لبناء دولة جديدة على أسس ديمقراطية، ويضع السوريين أمام تحدٍ كبير لتجاوز إرث الصراعات والانقسامات التي أرهقت البلاد. النجاح في بناء مستقبل مشرق يتطلب تعاونًا وطنيًا شاملًا يجمع بين مختلف الفصائل والتيارات السياسية، إضافة إلى ضمان مشاركة جميع الأطراف الفاعلة في صياغة رؤية واضحة لمستقبل سوريا. كذلك، فإن مرحلة ما بعد الأسد ستحتاج إلى خطوات مدروسة لإرساء الأمن والاستقرار، مثل إعادة بناء المؤسسات الوطنية وتشكيل جيش موحد قادر على حماية الدولة من التهديدات الداخلية والخارجية.
على المستوى الإقليمي والدولي، سيكون هناك تأثير مباشر على موازين القوى في المنطقة، حيث ستسعى الدول الكبرى، مثل روسيا، إيران، وتركيا إلى إعادة صياغة استراتيجياتها للحفاظ على مصالحها في سوريا، بينما يواجه المجتمع الدولي اختبارًا حقيقيًا لتقديم الدعم الكافي للسوريين في هذه المرحلة الحرجة. يبقى التحدي الأكبر هو تحقيق التوازن بين المصالح المتعددة والمتباينة للأطراف الإقليمية والدولية، وضمان أن تكون مصالح الشعب السوري وحقه في حياة كريمة ومستقرة هي الأولوية الأولى. كما أن إدارة هذه التحولات بحكمة واستغلال الفرصة لبناء دولة شاملة ومستقلة هو ما سيحدد مستقبل سوريا في السنوات القادمة.–
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا