قصة قصيرة
في مدينةٍ صغيرة تطل على نهر النيل، حيث تتداخل الحياة البسيطة مع أحلام الناس العاديين، كان يعيش رجلٌ يُدعى “علي”. كان “علي” يعمل مدرسًا للغة العربية في إحدى المدارس الابتدائية، وكان معروفًا بين زملائه وطلابه بصرامته وأخلاقه العالية. كان يؤمن بأن المبادئ هي أساس الحياة، وأن الإنسان لا يجب أن يتنازل عن قيمه مهما كانت الظروف. لكن الحياة لم تكن رحيمة مع “علي”. تزوج في سنٍ مبكرة من امرأةٍ تُدعى “سمية”، وأنجبا سبعة أبناء: أربعة شباب وثلاث شابات. كانت “سمية” امرأةً طيبة، لكنها كانت تعاني من مرضٍ مزمن أضعفها مع مرور السنوات. ومع تقدم المرض، أصبحت غير قادرة على رعاية أبنائها أو حتى نفسها. في لحظة ضعفٍ إنسانية، قرر “علي” أن يهرب من مسؤولياته. ترك زوجته المريضة وأبناءه السبعة، وذهب ليعيش في شقةٍ صغيرة بمفرده. كان يبرر فعلته لنفسه بأنه لم يعد قادرًا على تحمل أعباء الحياة، وأنه يحتاج إلى وقتٍ لنفسه. لكن الحقيقة كانت أكثر قسوة: لقد استسلم لضعفه، وترك أسرته تواجه مصيرها بمفردها. كبر الأبناء في ظل غياب أبيهم، وكانت “سمية” تعتمد على مساعدة جيرانها وأقاربها لتوفير احتياجات أبنائها. لكن المرض كان يقضي عليها شيئًا فشيئًا، حتى توفيت في يومٍ بارد من أيام الشتاء، تاركةً وراءها أبناءً مشتتين بين الحزن والغضب. بعد وفاة الأم، بدأ الصراع بين الأبناء على الميراث. كان المنزل الذي تركته “سمية” هو كل ما تبقى من إرث الأسرة، بالإضافة إلى بعض المدخرات البسيطة. لكن طمع الحياة جعل الأبناء يتنازعون فيما بينهم، كلٌ يريد أن يستحوذ على أكبر قدر ممكن. كان الابن الأوسط، ويدعى “خالد”، هو الأكثر طمعًا. قرر أن يستحوذ على كل شيء، مدعيًا أنه كان الأقرب إلى أمه والأكثر تضحيةً من أجلها. لكن الابن الأكبر، “محمود”، لم يقبل بهذا الظلم. كان “محمود” يعمل في ورشة نجارة، وكان يعلم أن أخاه “خالد” يحاول استغلال الموقف لصالحه. في ليلةٍ ماطرة، اجتمع الأبناء في منزل والدتهم لتقسيم الميراث. بدأ “خالد” بالحديث بصوتٍ عالٍ: “أنا الذي كنت بجانب أمي حتى آخر لحظة، وأنا الذي تحملت كل الأعباء. لذلك، أنا أحق بكل شيء.” لكن “محمود” لم يتردد في الرد: “هل نسيت أننا جميعًا أبناءها؟ هل نسيت أننا جميعًا عانينا من غياب أبينا؟ الميراث يجب أن يُقسَّم بعدل، وليس أن تستحوذ عليه وحدك.” اشتعل الجدال بين الأخوين، وكاد أن يتحول إلى عراكٍ جسدي لولا تدخل الأخوات. في النهاية، قرر الأبناء تقسيم الميراث بعدل، لكن الغضب والحقد كانا قد زرعا بذورهما في قلوبهم. بعد تقسيم الميراث، قرر “محمود” أن يبتعد عن أخوته. كان يشعر بأنهم قد خانوا مبادئهم من أجل المال، وأنهم لم يعودوا الأسرة التي عرفها. ترك المنزل وذهب ليعيش بمفرده، تاركًا وراءه كل الذكريات المؤلمة. لكن الحياة لم تكن سهلة على “محمود”. كان يعاني من الوحدة، ولم يكن أولاده يحترمونه كما يجب. كانت زوجته تعايره دائمًا بأن أهله هجروه، وكأنه هو المخطئ. بدأ “محمود” يشعر بأنه غريب في بيته، وأن العالم من حوله قد تغير ولم يعد يعترف بالمبادئ التي آمن بها. مع مرور السنوات، بدأ “محمود” يعاني من الاكتئاب. كان يشعر بأنه عاش وحيدًا، وسيموت وحيدًا. حاول أن يتقرب من أولاده، لكنهم كانوا مشغولين بحياتهم الخاصة. حاول أن يعود إلى أخوته، لكنهم رفضوا استقباله، وكأنه أصبح غريبًا عنهم. في ليلةٍ باردة من ليالي الشتاء، شعر “محمود” بآلامٍ شديدة في صدره. حاول أن يطلب المساعدة، لكنه لم يجد من يسمعه. توفي وحيدًا في بيته، ولم يُكتشف أمره إلا بعد أيام. عاش “محمود” وحيدًا، ومات وحيدًا. كانت حياته درسًا قاسيًا عن كيف يمكن للمبادئ أن تُهزم في ظل المتغيرات الرأسمالية الاستهلاكية. لقد آمن بالعدل والإنصاف، لكن العالم من حوله كان يبحث عن المصلحة الشخصية. وفي النهاية، أدرك الجميع أن “محمود” كان الرجل الوحيد الذي وقف ضد التيار، لكنه دفع ثمن ذلك بكل شيء. كانت حياته تذكرةً بأن المبادئ قد تكون ثقيلة، لكنها هي التي تجعلنا بشرًا. وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية، يعاني أكثر من 264 مليون شخص حول العالم من الاكتئاب، وتزداد النسبة في المجتمعات التي تعاني من التفكك الأسري. في مصر، تشير الإحصائيات إلى أن 40% من كبار السن يعانون من الشعور بالوحدة، بسبب ابتعاد الأبناء وانشغالهم بحياتهم الخاصة. تظهر الدراسات أن 70% من النزاعات الأسرية في المجتمعات النامية تكون بسبب الميراث، مما يؤدي إلى تفكك العلاقات الأسرية.
هذه القصة تُذكرنا بأن المال والمصلحة الشخصية قد يجعلاننا ننسى إنسانيتنا، لكن المبادئ هي التي تبقى حتى بعد رحيلنا.