سيدة عرفها الناس بقوة شخصيتها وصلابتها وجرأتها فلا تخشى في قول الحق لومة لائم ..
عندما شعرت أن الديكتاتورية العسكرية تزحف على بلادنا أرسلت لحاكم مصر تقول له: أنت في حاجة لمن يختلف معك ، وهذا لن يتأتى إلا بإطلاق الحريات وحرية الصحافة على رأسها.
إنها جدتي العظيمة “روزاليوسف” ، أما خطابها هذا فهو موجه إلى “البكباشي جمال عبدالناصر” عام ١٩٥٣ ، وكان مازال مرتديا لزيه العسكري.
ونشرت خطابها في مجلتها الشهيرة.
وبدأته بتحية جهوده وزملائه من الضباط الأحرار وعملهم الدائب من أجل نهضة مصر ، وقالت: أنني أعرف الكثير من ساعاتك التي تنفقها عملا بلا راحة ، ولياليك التي تقضيها سهرا بلا نوم ، وتدقيقك البالغ في كل ما يعرض عليك من أجل الوصول إلى الأفضل ، لكنك وحدك لن تقدر على كل شيء ولا حتى بالمعونة المخلصة التي يقدمها كل من يحيطون بك وكل من تعرفهم وتثق بهم ..
أراك في حاجة لسماع رأي من يختلفون معك حتى تكتمل الصورة أمامك ، وهذا لن يتأتى إلا بإطلاق الحريات العامة وخاصة حرية الصحافة ..
وقارنت جدتي بين “ناصر” ورب الأسرة الذي يبذل جهده من أجل تربية أولاده ..
والأب الناجح هو الذي يسمح لأبناءه بالتعبير عن أنفسهم وأن يكون لكل منهم شخصية مستقلة ، ويخطئ تماماً إذا تحكم في أمورهم وسحق شخصيتهم وأراد أن يكونوا صورة منه ..
وكذلك الحاكم يقود البيت الكبير “مصر” ، لكن لابد أن يسمح لأبناءه بحرية التعبير عن أنفسهم.
وتقول “روزاليوسف” في رسالتها لحاكم مصر: قرأت لك كلاماً طيباً ، بأنك تبحث عن الكفاءات في كل مكان وترحب بالنقد البناء ، والكلام وحده لا يكفي ، بل لابد من ترجمته إلى واقع ..
ومصر بلادنا العظيمة مليئة بالكفاءات ، ولكنك لن تستطيع جذبهم إلا إذا شعروا أنهم أحرار في إبداء آرائهم ، أما إذا أستعنت بهم لتحقيق ما تريده فهذا سيجعلهم يفكرون أكثر من مرة في العمل معك ، لأن مجرد شعور صاحب الكفاءة بأن هناك شيئاً مطلوباً وشيئاً آخر غير مطلوب يجعله إما أن يبعد بنفسه خشية ألا يوافق المطلوب ! وإما أن يقترب بعدما يهيئ نفسه ليتلائم مع ما يعتقد أنه مطلوب !!
فتضيع الفائدة في كلتا الحالتين.
وعن تقبل “البكباشي ناصر” للنقد البناء كما قال ..
ترد قائلة الصحف أصبحت حالياً طبعة واحدة لا ترى الأختلاف بينها إلا إستثناء ، وأظن أن ذلك يخالف ما كنت تأمله من النقد البناء !
ودعنا نتأمل الواقع الحقيقي ، فهناك رقابة على الصحف ..
التي لن تسمح بالتأكيد للرأي المخالف بالإضافة إلى القيود المشددة على الحريات ، وكل إنسان حر لابد أن يتحسس رقبته أولا ويفكر مرات عدة قبل أن يدلي بدلوه في مثل هذه الظروف.
وتناقش جدتي “ناصر” في وجهة نظره من أن إطلاق الحريات لم تؤدي إلا إلى الفوضى ولا يستفيد منها إلا الملوثون المغرضون الذين يريدون تحقيق أغراضهم وتجارب مصر تشهد على ذلك ، وتتساءل سيدتي العظيمة وهل البديل هو ما نعيش فيه حالياً فلا يسمع إلا الصوت الواحد فقط ؟؟ أم أنه من الأفضل الإستفادة من أخطاء الماضي ووضع قواعد تسمح بحريات حقيقية وتقضي على دولة الخوف والرقابة على الكلمة ويتاح خلالها لكل صاحب رأي أن يعبر عن رأيه.
وانتهى خطابها ..
ولأنها “روزاليوسف” ملء السمع والبصر ، فلم يستطع “ناصر” سوى أن يشكرها على نصائحها وإشادتها بما يبذله من جهد ..
وقال أشعر بالعرفان لإحساسك بما اقوم به من جهد من اجل مصر ، وأكد على ما قالته من أنه وكل زملائه من الضباط الأحرار لن يستطيعوا فعل شيء دون الإستفادة بمختلف الكفاءات ..
ولم يجادلها فيما قالته ، لكن بعد سنة بالضبط أعتقل أبنها “إحسان عبدالقدوس” عام ١٩٥٤ بعد مقال كتبه ينتقد فيه مجلس قيادة الثورة .. عجائب !!