رأيت الناس يلهثون يتنافسون فيتقاتلون على غنائم الدنيا في البر والبحر، رأيت الصراع دامياً بين بني المسلمين في المدر والوبر، رأيت الضياع حتمياً لمن شغف بسفاسف الأمور معرضاً عن صلوات الفجر والظهر والعصر، رأيت البر منسياً عند الذي يسمى صبياً تجاه ما بلغ به أرذل العمر، فلما تحققت أركان الهدم مصحوبة بأعمال وأفعال وأقوال الشر، استنكرت فاستعجمت فضجرت أشد ما يكون الضجر، فاستدرت وجهي فشددت عزمي فسلطت بصري على الذي هو أكمل وأجمل ملمح خلفه الدهر، إنه عصر سيد الأولين والآخرين بكل عز وفخر، إنه العصر الذي كان التنافس فيه عجيباً غريباً طريفاً خالياً من مثقال ذرة رياء أو كبر، تنافس المهاجرون والأنصار على كل أنواع وأصناف الخير، أقبلوا بحمية فولاذية على قطع دابر الكفر، أقبلوا بعقول ذكية وقلوب تقية ونفوس مرضية على بلوغ إحدى الحسنين الشهادة أو النصر، طامعين متضرعين أن ينجيهم ربهم من ظلمة القبر وخزي يوم الحشر، فحزن منهم من فاته شموخ النصر يوم بدر، فتحينوا بلهفة نفس أقرب فرصة للإقدام وهم على أحر من الجمر، فكان يومهم بحق هو يوم أحد برغم الهزيمة دون الظفر، ما أعظم يوم أحد برغم هزيمة المسلمين بأيدى أهل الكفر، ما أروع الأنصار يومئذ فقد قتل منهم ست وستين شهيداً من إجمالي سبعين شهيداً باحتساب وصبر، ما أبدع روح النصر المعنوي وهي تدب في فؤاد الرجل أنس بن النضر، إنه أحد الأنصار وكفى الذين ضحوا بكل غال ونفيس ابتغاء ربهم العلي ونبيهم المجتبى، لقد سطر الأنصار وبالرغم من الهزيمة يوم أحد ملحمة غير مسبوقة تعزى لهم جميعاً، فهم أولئك القوم الذين ثبتوا ثباتاً عظيماً، كانوا يسبقون المهاجرين يومئذ على شرف البطولة، على شرف حماية رسول الله بكل عزيمة، على الشهادة في سبيل الله برغبة أكيدة، وايم الله قد بكت عيني وحق لها البكاء، على شهداء يوم أحد السبعين، غير أن فاجعتي كانت هي الأكثر على شهداء الأنصار يومئذ، فقد مُثل بأجسادهم الطاهرة أوجع تمثيل، وسالت دماؤهم الذكية بدون تعليل، فصعدت أرواحهم النقية عند الرب الجليل، قُتل كثيراً منهم أشد تقتيلاً، فكان مقتل أنس بن النضر عزيزاً على نفسي، فقد قاتل ببسالة مذهلة بكلتا يديه حتى وقع شهيداً، فتناوب على جسده المشركون تقطيعاً وتمزيقاً إرباً إرباً، حتى تركوا به بضع وثمانون بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، حتى استغربه أصحابه فما عرفته إلا أخته ببنانه، لله در أنس بن النضر في مواطن تنقش بماء العيون في كل السنود والمتون، فقد فاته مشهد بدر فسابق الزمن على الفتك بالمشركين يوم أحد إذ قال ( غبت عن أول قتال قاتله رسول الله المشركين، لئن أشهدني الله قتالاً ليُرين الله ما أصنع ) فشهد أحداً وأبلى فيها بلاءً لا يقدره إلا رب السماء ومن بعده سيد الأنبياء، ولما أشيع بموت النبي يوم أحد، وقف أنس بن النضر موقفه العظيم إذ قال لعمر رضي الله عنه والرهط الذين معه: ما يقعدكم ؟ قالوا قتل رسول الله، فقال رضي الله عنه قولة مجيدة ( فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم قاتل بسيفه حتى قُتل ) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إني لأرجو أن يبعثه الله أمة واحدة يوم القيامة ،، هذا هو التنافس الجبلي الذي غرسه الله في النفس البشرية كأحد مكونات الفطرة الإنسانية، لكن بوناً هائلاً بين تنافس على الظفر بنعيم الآخرة الباقي، وبين الذي هو آني عصري من أجل ولأجل الدنيا بنعيمها الزائل الفاني، رضي الله عن الصحابة وهنيئاً لهم رضا الله العلي ورضا النبي الهادي المهدي —–
