من يتأمل بهدوءٍ تطورات “المسألة الفلسطينية” في جانبها الراهن (قطاع غزة أنموذجاً)؛ ويقوم بالتدقيق في سيناريوهات إدارة أزمتها؛ عليه أن “يَرْفَع القُّبَعَة” – كما يُقال – للدولة المصرية؛ وينحني تقديراً واعتزازاً بجهودها المبذولة في هذا الحقل على كافة الأصعدة والمستويات؛ بتوجهاتها الرسمية والمبادرات الداعمة من الدول العربية الشقيقة، والدول الصديقة على مستوى العالم.
إن “القضية الفلسطينية” تمثل في حد ذاتها نقطة مركزية دوماً في عمق التفكير السياسوي المصري؛ منذ بدايات حدوثها؛ ولا يمكن لأيِّ مُزايدٍ على الدور المصري أن يحاول اللعب راهناً على نمط الوجدان الشعبوي المُضَلَّل في كثير من الأوقات؛ بحكم افتقاده للجرعات المناسبة من المعلومات الموثوق بها؛ فضلاً عن نمطية تشكيل وجدانه بخطاب الكذب والتزييف؛ تحديداً عبر “وسائط التواصل الاجتماعوي”، والتي تنشط خلالها أدوات الكراهية الموروثة لمصر لدى الجماعات السَّاقطة العقل ومشوهة الوجدان (جماعة حسن الساعاتي البنَّاء أنموذجاً) عبر الدَّسِ المعلوماتي الكذوب.
ووفق ما يبدو فإن هناك معادلة عميقة: حين يُذكر اسم “مصر” في كِفَّةٍ يرتبط به على الفور اسم “فلسطين” في الكِفَّةِ الثانية؛ حيث لا انفصام بينهما؛ وليس لمصر جغرافياً ـ عكس الآخرين ـ أي خيار بالانفصام؛ أو التملص من التزامها الوجودي بفلسطين.
إن العناصر الحاكمة لهذه العلاقة الثنائية وجودياً (مصر/فلسطين) ذات عمق تاريخي؛ وسياسي وجغرافي وعقدي؛ فيما تتقلص تلك العلاقة بين الآخرين وفلسطين إلى العنصر العقدي (المسجد الأقصى أولى القبلتين أنموذجاً). ومن هنا فإن المسألة الفلسطينية تأتي في رأس الأمر مصرياً بحكم المُلاصقة الجغرافية والتي وَفَّرت الفرصة للترابط المُتَجَّلي في هجرات عائلات أهل الجزيرة العربية من الأشراف؛ وتماهيهم مع سكان مصر؛ فضلاً عن الارتباط الوثيق لمصر “أرض التوحيد” بأمور الرسالة السماوية (إبراهيم الخليل عبوراً وزواجاً؛ ويوسف توظيفاً، وموسى تكليفاً أنموذجاً).
وهذه العلاقة العميقة بالملاصقة؛ حققت الارتباط البنيوي بين البلدين منذ فجر التاريخ؛ وامتدت إلى العصر الحديث؛ ولعل أقرب محطاتها تتمثل في حالة الوعد المشؤوم “بلفور”؛ الذي مثَّل الدافع لاختلاق كيان سرطاني غريب من شذاذ الآفاق؛ جرى توطينهم بفعل الاستعمار البريطاني للمنطقة في أرض فلسطين؛ وهو ممن لا يملك لمن لا يستحق؛ فتصير أرضُها وطناً لغرباء النوع والجنس واللغة؛ وسط محيط متلاطم ينطق بـ “لغة الضاد”.
وهناك من المراجع الموثوقة ما يُثبت إدانة “الدولة العثمانية” في تمكين هذا النوع من التسلل إلى فلسطين والتوطن؛ بما أتاحه لهم السلاطين سليمان القانوني ووريثه سليم ثم عبد الحميد الثاني؛ الذي أتاح الفرصة الماسية لتوطينهم (كتاب فدوى نصيرات: دور السلطان عبد الحميد في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين أنموذجاً).
وفي كل المراحل فإن الجيش المصري العظيم برجاله المخلصين لم يغمض العين عن فلسطين؛ ويكفي حسب المراجع أن البطل “أحمد عبد العزيز كان أول ضابط مصري، يطلب بنفسه إحالته للاستيداع، ليُكوِّن فرقةً من المتطوِّعين الفدائيِّين لإنقاذ فلسطين من أيدي اليهود حينما صدر قرار تقسيم فلسطين العام 1947م”.
ولا يمكن إغفال أن الجيش المصري انطلق مُشاركاً الجيوش العربية في حرب 1948م. وبوطنية وقومية زمرة ضباطه خاضوا المعارك على الرغم من قضية عوار الأسلحة الفاسدة؛ التي فُسِّرت بضيق الوقت قبيل أسبوعين بعد قرار الجامعة العربية أمام الوسطاء؛ الذين استوردوا العتاد الحربي غير المدروس صلاحيته؛ ما ساهم في تعميق التوجه من الضباط الشرفاء للتجهيز لثورة يولية 1952م بقيادة الراحل جمال عبد الناصر صاحب شعار “لا اعتراف… لا صلح… لا تفاوض”، واعتبار القضية الفلسطينية قضية أمن قومي/مصري فضلاً عن دعم منظمة التحرير الفلسطينة.
وتواصل الاهتمام المصري بأدوار الرؤوساء المصريين: أنور السادات وحسني مبارك وعبد الفتاح السيسي بحل الدولتين والقدس الشرقية عاصمة فلسطينية؛ مع تأكيد ثابت “الأرض مقابل السلام وتوقيع اتفاق الحكم الذاتي”، وترسيخ التوجه الدولي بدعم القضية وترقيتها في الأمم المتحدة من مُراقب الي عضوية دولة كاملة بتصويت 143 دولة.
وحين وقع حدث ما أسميه “طوفان الفوضى” الذي اعتبره فعلاً مشتركاً من “حماس” فرع جماعة حسن الساعاتي البناء ودولة الكيان الصهيوني وقد تسبب في تدمير غزة فوق رؤوس أهلها المتشبثين بأرضهم؛ فكانت الكلمة الراسخة من مصر التي أعلنها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأنه لا تهجير للفلسطينيين من أرضهم؛ فـ”سيناء خط أحمر” أمام كل محاولات الصهاينة والإمبريالية الأميركية لتوطينهم بها؛ وهو ما يُفشل كل مخططاتهم التي تستهدف الإجهاز على القضية؛ وإغلاق ملفها ومسحها من الخريطة.
وليس من تكرار القول الحديث حول التدافع المصري والعربي والدولي لإدخال المعونات المختلفة للقطاع المنتكب. إذ تحملت مصر مؤسسات وشعب أعباء المعونات (قرابة الـ 60%) منها وإيصالها عبر “ميناء رفح” البري.
ثم يتجلى الحضور المصري الأصيل بالدعوة إلى القمة العربية غير العادية والطارئة “قمة فلسطين” في الرابع من مارس 2025م بالقاهرة (تثمينا للصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني خلال خمسة عشرة شهراً أمام عدوان وسياسات غير إنسانية)؛ بالتنسيق مع صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة “ملك مملكة البحرين” رئيس الدورة العادية الثالثة والثلاثين على مستوى القمة؛ حيث رفضت القمة تهجير الفلسطينيين؛ واعتماد الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة.
لقد استوعبت القمة العربية “التصورات المصرية” الأصيلة؛ والتي لا تتاجر بالقضية أو تلعب بـ “بربوجندتها”؛ وقد اعتمدت الخطة المصرية بشأن إعادة إعمار غزة، ودعْم القرار الفلسطيني بتشكيل لجنة لإدارة القطاع لفترة انتقالية تحت “مظلة الحكومة الفلسطينية”، مع الدعوة في الوقت ذاته مجلس الأمن الدولي لنشر قوات دولية لحفظ السلام في الضفة الغربية والقطاع.
ومن الواجب التأكيد على ما ورد في البيان الختامي بأن الخطة المقدمة من مصر “تأتي بالتنسيق الكامل مع دولة فلسطين والدول العربية مستندة إلى الدراسات التي أجراها البنك الدولي والصندوق الإنمائي للأمم المتحدة، بشأن التعافي المبكر وإعادة إعمار غزة باعتبارها خطة عربية جامعة، مشيراً إلى العمل على تقديم أنواع الدعم المالي والمادي والسياسي كافة لتنفيذها”.
وتذكر المصادر “أن الخطة المصرية المؤلفة من 112 صفحة تتضمن خرائط توضح كيفية إعادة تطوير أراضي غزة وعشرات الصور الملونة التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي لمشاريع الإسكان والحدائق والمراكز المجتمعية، كما تتضمن الخطة ميناء تجارياً ومركزاً للتكنولوجيا وفنادق على الشاطئ؛ مع وجوب”تشكيل لجنة إعادة إعمار غزة من شخصيات غير فصائلية ـ تكنوقراط ـ تعمل تحت مظلة الحكومة الفلسطينية”.
وطالب البيان المجتمع الدولي ومؤسسات التمويل الدولية والإقليمية بـ “سرعة تقديم الدعم اللازم لخطة إعادة إعمار غزة، والتأكيد على أن هذه الجهود كافة تسير بالتوازي مع تدشين مسار سياسي وأفق للحل الدائم والعادل بهدف تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني المشروعة إلى إقامة دولته والعيش في سلام وأمان؛ وضرورة تكثيف التعاون مع القوى الدولية والإقليمية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، من أجل تحقيق السلام الشامل والعادل في المنطقة، في سياق العمل على إنهاء الصراعات بالشرق الأوسط، إذ أن الخيار “الاستراتيجي هو تحقيق السلام العادل والشامل الذي يلبّي جميع حقوق الشعب الفلسطيني”.
وهكذا دوماً مصر تكون حاضرة وفاعلة؛ لتتأكد المقولة: ليس لـ “فلسطين” سوى مصر… “إنقاذ غزة أنموذجاً”.
