فى زمن تتسارع فيه خطوات العالم نحو المستقبل لم تعد مفاتيح القوة فى يد الجيوش ولا أدوات النهضة تُختزل فى المعونات بل بات العقل هو المورد الأول والنهائي. والعقل لا يُصقل إلا فى ساحة واحدة: التعليم.
نحن الآن فى منتصف الطريق نحو “رؤية مصر 2030” التى وضعت التعليم على رأس أولوياتها إدراكا بأن التنمية ليست قرارات عليا فقط بل هي أساسا استثمار طويل الأمد فى الإنسان. لكن التحدي الحقيقي ليس في وجود الخطة بل في تحويلها إلى واقع ملموس يعيشه التلميذ فى الفصل والباحث في المعمل والخريج فى سوق العمل.
التعليم ليس رفاهية ولا ترفا فكريا بل هو معركة بقاء وتقدم. نحن لا نحتاج فقط إلى تحديث الأبنية أو تغيير المناهج بل إلى ثورة شاملة في الفهم: كيف نتعلم؟ ولماذا نتعلم؟ ولمن نبني هذا النظام؟ المسألة تتجاوز الكتب إلى تشكيل الوعى وتتجاوز الشهادات إلى بناء الشخصية.
لا يمكن أن نبني اقتصادا حقيقيا على عقول لا تُجيد التفكير النقدي ولا أن نؤسس دولة حديثة بأجيال تخاف السؤال وتهاب الخطأ. التعليم الذى نحتاجه هو ذلك الذى يُطلق طاقة الطفل ويشعل فضول المراهق ويدفع الشاب نحو الإبداع لا نحو الوظيفة الروتينية.
وفى التجارب الناجحة نرى بوضوح كيف يصبح التعليم هو القاطرة. اليابان لم تنهض بالتكنولوجيا فقط بل بغرس قيم الانضباط والاحترام فى أول يوم دراسي. وفنلندا لم تحقق أفضل نتائج التعليم باعتماد الامتحانات بل بتقليلها وتحرير الطالب من الخوف وربطه بالعالم الحقيقي.
فى مصر ما زال التعليم فى كثير من الأحيان محصورًا بين جدران الفصل منفصلا عن الحياة وسوق العمل. هذا الانفصال يخلق فجوة خطيرة بين ما نُدرّسه وما نحتاجه، وبين ما يتعلمه الطالب وما ينتظره من تحديات. سدّ هذه الفجوة يبدأ من ربط التعليم بالبحث العلمي ومن تحويل الجامعات إلى مصانع أفكار لا مجرد قاعات امتحانات.
ولنكتفِ بالشعارات. آن الأوان لتحويل الكلام إلى أفعال والمبادئ إلى سياسات واضحة. نحتاج إلى معلم مُؤهل ومحفز إلى طالب يشعر بجدوى ما يتعلمه إلى مناهج تُنمّي التفكير لا تحفظ التواريخ. نحتاج إلى مدرسة تُربّي قبل أن تُدرّس وجامعة تُلهم قبل أن تُقيّم.
ولا يكتمل الحديث إلا بسوق العمل فهو الامتحان الحقيقي لمنظومة التعليم. إذا لم يكن هناك توافق بين ما يُدرّس وما يُطلب سيبقى الخريج حائرا وسنبقى نحصد بطالة مقنّعة. التعليم الجيد هو ذلك الذى يُنتج إنسانا يعرف كيف يتعلم كيف يعمل كيف يبتكر وكيف يواكب متغيرات العالم دون أن يفقد جذوره.
فى النهاية ليست الرؤية مجرد وثيقة ولا المستقبل وهما بعيدا. المستقبل يُكتب الآن فى كل مدرسة ودرس وسؤال. كل طفل يشعر بالحماس للمعرفة هو لبنة فى صرح النهضة وكل معلّم يشرح بقلبه قبل لسانه هو قائد حقيقي لمعركة التنمية.
نعم المعركة تبدأ من السبورة لكنها لا تنتهى عندها. تبدأ حين نُعلّم الطفل أن المعرفة حق ومسؤولية وتنتهى حين يتحول هذا الطفل إلى مواطن فاعل يدرك أنه ليس تابعا للعالم بل شريك فى صنعه.