عن محمود عبد العزيز، الصحفي العصامي الذي أحبّ السياسة والقرية
كان الليل يهبط على القرية كعباءة سوداء من نسيج الذكرى. الهواء ساكن، مشبع برائحة الطين والريحان، وأصوات بعيدة تتسلل من أطراف الحقول. سرت وحدي على الطريق الترابي، لا يرافقني سوى ظلّ خافت من طفولةٍ عبرت، وحنينٍ مبهم لا أعرف له اسماً.
توقفت عند الفيلا المهجورة. ذاتها، لم يتغير موقعها، لكن ملامحها ذبلت. فيلا الأستاذ محمود عبد العزيز. كم من مرة حدّقنا فيها كأطفال، مبهورين بعظمة البناء وحداثته وسط بيوتنا الطينية، ومندهشين من صدى السيجار الفاخر، وصوت الكاديلاك الذي كان يُعلن عن حضوره قبل أن يطلّ. كان في حضوره شيء من المدن، وفي حلمه شيء من الثورة. جاء من صخب القاهرة، حاملاً في قلبه مشروعًا، لكنه واجه على عتبة قريتنا أولى الخيبات.
الأستاذ محمود لم يكن رجلًا عاديًا. كان صحفيًا لامعًا في مؤسسة الأهرام العريقة، عصاميًا صنع نفسه بنفسه في العاصمة، في زمن كانت فيه الكلمات تصنع مجدًا. بوجهه الذي يشبه وديع الصافي، وهدوئه الذي يُذكّر بمصطفى أمين، نسج لنفسه حضورًا خاصًا لا يُنسى. وقد ذكره محمد حسنين هيكل في مذكراته، مشيرًا إلى نفوذه وسطوته في السلطة المحلية، وإلى دوره في أزمة اعتقال مصطفى أمين، حين سهّل زيارة هيكل للسجن.
حين قرر العودة إلى قريته، لم يأتِ ليستريح، بل ليخوض تجربة سياسية محلية. كانت أولى خطواته بناء فيلا حديثة، شاهقة وسط البيوت الطينية. لكن الحلم اصطدم سريعًا بالواقع. أثناء الحفر، انهار منزل مجاور، وراح ضحيته أبرياء. كانت صدمة هائلة، هزّت القرية بأسرها، وكانت أول شرخ في مشروعه الصامت.
رغم ذلك، أكمل البناء، وأوقف أمامها سيارته الكاديلاك ذات آلة التنبيه الفريدة، التي كنا نسمعها فنعلم أنه وصل. كان ذا كاريزما نادرة، وقامة مهيبة. السيجارة في فمه لم تكن تفارقه، يدخنها ببطء، وكأنه يرسم بها سطورًا غير مرئية من مقاله القادم.
قريتنا في زمنه شهدت صراعًا انتخابيًا استثنائيًا. انقسمت إلى جبهتين، وتحوّل المقر الانتخابي في المدرسة الابتدائية إلى ساحة للعراك. أصيب بعض الشباب، أحدهم — وهو الآن محامٍ بارز — تلقّى حجرًا أثناء زفة صاخبة، وكادت حياته تُفقد لولا لطف الله. الزفات والمهرجانات الانتخابية كانت تموج في القرية كأنها موسم من الجنون والولاء.
لكن الأستاذ محمود، رغم جراح الحلم، لم يفقد أناقته السياسية، ولا بريقه الأخلاقي. كان صعبًا أن تفكّ شيفرة شخصيته، لكنه كان من أولئك الذين تهابهم وتحترمهم في آن، حتى وإن اختلفت معهم.
الليلة، وأنا أقف أمام الفيلا المهجورة، وقد علاها العشب الجاف وصوت البوم، شعرت كأنني أستمع لصوتٍ قادم من عمق الطفولة. كلاب تنبح من بعيد، والقرية نائمة، وأنا أسترجع صورة الأستاذ محمود، يضع سيجارته بين شفتيه بنعومة، كأنما يكتب بمزاج روائي، لا صحفي.
أولئك الرجال، الذين ساروا في الحلم حتى آخره، كانوا يحملون مشروعًا، وبعضهم كتب الدراما من حياته، والبعض سكن الذاكرة كما تسكن الأرواح في فيلا منسية… فيلا الصمت.,,!!محمد سعد عبد اللطيف ،كاتب وباحث
