” هذه محاولة جريئة أردت أن أجمع بها في مؤلف واحد تاريخ شعب عريق قديم له عقيدته وفلسفته في الحياة وله ثقافته وطرائق معيشته ،ولم اتخذ من تاريخ الفرعون نموذجا لتاريخ شعبه ، فقد يكون الفارق بينهما كبيرا والهوة سحيقة ، بل جعلت حال الشعب أساسا لما كتبت وفي ذلك ما يقربنا من الحقيقة ، ويجنبنا مزالق الخطأ والضلال “. بهذه الكلمات القيمة ذات المعاني العميقة قدم عميد الأثريين المصريين المؤرخ الدكتور سليم حسن (1893- 1961) موسوعته القيمة ( مصر القديمة ) التي كتبها في 16 مجلدا على مدى 20 عاما من عام 1940 حتى عام 1960 ، وتعد أكبر وأهم ما كتب عن تاريخ المصريين القدماء بقلم مواطن مصري محب لوطنه وعاشق لتاريخه. أضيف لها في طبعة مكتبة الأسرة عام 2000 جزئين إضافيين هما كتاب الأدب المصري القديم ليصبح عدد مجلدات الموسوعة 18 مجلدا.
وأهم ما يميز كتابات المؤرخ الموسوعي سليم حسن أنها لم تكن مبنية فقط على البحث العلمي ودراساته النظرية قبل وبعد الحصول على الدكتوراه من جامعة فيينا عام 1935. ، بل كانت مدعومة بتجربة عملية طويلة في مجال البحث والتنقيب عن الآثار المصرية وحمايتها من الضياع.
ففي عام 1929 بدأ سليم حسن أعمال التنقيب الأثرية في منطقة الهرم لحساب جامعة القاهرة خلال رئاسته لكرسي الأثار بكلية الاداب لتكون المرة الأولى التي تقوم فيها هيئة علمية منظمة أعمال التنقيب بأيد مصرية، وكان من أهم الأكتشافات التي عثر عليها مقبرة (رع ور). وإستمر في أعمال التنقيب بمنطقة أهرامات الجيزة وسقارة لمدة 10 سنوات حتى عام 1939، إكتشف خلالها ، بحسب موسوعة ويكيبيديا ، حوالي مائتي مقبرة أهمها مقبرة الملكة (خنت كاوس) من الأسرة الخامسة ومقابر أولاد الملك خفرع، بالإضافة إلى مئات القطع الأثرية والتماثيل ومراكب الشمس الحجرية للملكين خوفو وخفرع.
وشغل أيضا منصب وكيل عام لمصلحة الآثار المصرية ليكون المسؤل الأول عن كل آثار البلاد ، وهو أول مصري يتولى هذا المنصب حيث كان مقصورا على العلماء الأجانب . وتمكن خلال الفترة القليلة التي شغل فيها هذا المنصب من إستعادة الكثير من القطع الأثرية المنهوبة من داخل وخارج مصر مما جلب عليه المتاعب. ويروي الباحث كمال الدين حسين في العدد 28 من دورية (أبناء الوطن ) أنه إستعاد إلى المتحف المصري مجموعة من القطع الأثرية كانت بحوزة الملك فؤاد، وقد حاول الملك فاروق إستعادة تلك القطع بإعتبارها ممتلكات خاصة لأبيه ولكن د. سليم رفض وقال له : ” إن الآثار المصرية ملك لمصر وللإنسانية”. ويضيف الباحث أن هذا الموقف بالإضافة لكيد الأثريين الأجانب كانت وراء إحالته للتقاعد وعمره لم يتجاوز 46 عاما ليتفرغ للبحث والتأليف.
وفند سليم حسن في موسوعته كتابات غالبية المؤرخين الغربيين والذين يروجون زورا أن ” مصر القديمة تقدم النموذج علي الحاكم والرعية إعتمادآ علي علاقة من الإذعان والخوف “. ويرد في تمهيده للمجلد الثالث من الموسوعة :” أن الباحث في التاريخ المصري من نشأته يلحظ أن شعب مصر قام بعد سقوط الدولة القديمة بأول ثورة إجتماعية على الأغنياء والملوك ، وطالب بالعدالة الاجتماعية والدينية فنال ما أراد “.
وينشر د. سليم في صفحتي 459 و460 من المجلد الثالث نص خطاب الملك الى وزيره لحظة توليه منصبه ( خطاب التكليف ) يوصيه بمعاملة الرعية بالعدل والجدية في أداء وظيفته قائلا :” تبصر في وطيفة الوزير وكن يقظا للقيام بكل مهامها ، وإعلم أن الوزارة ليست حلوة المذاق.. عامل من تعرفه معاملة من لا تعرفه والمقرب من الملك كالمبعد عنه.. وعندما يأتيك سائل يتظلم عليك أن تطمئنه أن المعاملة التي عومل بها كانت وفق القانون “.
رحم الله د. سليم حسن الذي توافقت كتاباته مع مواقف وتصرفاته.