“هنا انتصبت الكعبة، مغطاة بكاملها بالنسيج الحريري الأسود، جزيرة هادئة وسط ساحة المسجد المربعة الواسعة، أبسط كثيرا من أي أثر معماري آخر في العالم… قد سبق لي أن رأيت في بلدان إسلامية مختلفة مساجد بديعة في بنائها ولكن شعوري لم يكن قط قويا كما كان الآن أمام الكعبة، فهذا التواضع الفخور في هذا البناء الصغير لم يكن له مثيل على الأرض ” بهذه الكلمات القيمة وصف المفكر والصحفي النمساوي محمد أسد ( ليوبولد فايس) الكعبة المشرفة عندما دخل المسجد الحرام لاداء الحج عام 1344 هجرية الموافق عام 1926م لاول مرة بعد اعلان اسلامه وشاهد الكعبة المشرفة .
ويعبر أسد في كتابه القيم ( الطريق الى مكة) عن مشاعره أثناء الطواف حول الكعبة بين كتل بشرية من الحجيج قائلا :” تقدمت أطوف، وأصبحت جزءا من سيل دائري ،أصبحت جزءًا من حركة في مدار. وتلاشت الدقائق، وهدأ الزمن نفسه، وكأن هذا المكان محور العالم . وأسمع في أذني صيحة الفرح، لن تعود بعد غريبا، فإخوة عن اليمين، وإخوة عن الشمال، ليس بينهم من أعرفه، وليس فيهم من غريب. فنحن جسد واحد، يسير إلى غاية واحدة، وفي قلوبنا جذوة من الإيمان الذي اتقد في قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الجميع أنهم قصروا، ولكنهم لا يزالون على العهد، سينجزون الوعد”.
ويروي نفس التأثر الروحي والجسدي الذي شعر به السفير الألماني مراد هوفمان عندما شاهد الكعبة في موسم حج عام 1412 هجرية الموافق 1992 ميلادية “نحن أولاء نقف أمام أقدم دور التوحيد في العالم، أمام الكعبة المشرفة ، التي يتجه إليها أكثر من مليار من البشر في صلواتهم اليومية، ولم يغب عن خاطري طوال الطواف أننا نتوجه في طوافنا إلى الله. وأضفت إلى الأدعية المعتادة دعاءً شخصيًا مفاده: اللهم اجعل الحق يقر في نفسي، واجعل الحق حقيقتي الشخصية “.
ويصف هوفمان في كتابه القيم ( رحلة إلى مكة ) يوم عرفة قائلا : “كان يوما رائعا، كان يوما للتأمل وللسلام، يوما للصلاة، وللأحاديث القيمة. فلا شيء يوم عرفة سوى مناجاة الله، وهنا يتجسد نداؤنا الدائم: لبيك اللهم لبيك، ملايين من الناس يتشحون بأكفان، ويتركون في هذا اليوم كل شيء وراء ظهورهم، فوجودهم اليوم مكرس لله وحده”.
ويتأمل هوفمان في منسك رمي الجمرات قائلا :” يرمز الرمي لرفض الإنسان القاطع للشر بداخله هو نفسه وفي العالم أيضًا. واقتربت من العمود، حتى أضمن أصابته باستخدام إصبعين فقط، مع احتفاظي بمسافة تحميني من التعرض لوابل من حصى الحجاج من الخلف. إنه موقف صعب حقًا، لأن بعضًا من البسطاء ينتابهم شعور بأن في مقدورهم أن ينالوا من إبليس لمرة واحدة في حياتهم، فيرموا رمزه بأحجار كبيرة”.
تلك مشاعر ومواقف بعض الحجاج الذين دخلوا الاسلام بعد رحلة طويلة تعبوا خلالها في البحث عن الحقيقة . وعندما هداهم الله إلي الإسلام تمسكوا به اعتقادا وسلوكا ، بل وسعوا بكل قواهم لنشره والدفاع عنه.
اليوم يقف المسلمون على صعيد عرفات – كل عام وانتم بخير – فتعالوا معي نرى كيف ينظر الى الكعبة غالبية الحجاج الذين أنعم الله عليهم بأن ولدوا مسلمين. فقليل منهم من يتأثر برؤية الكعبة للمرة الاولى ، وغالبيتهم يتأفف من زحام الطواف ، ويزاحم الاخرين وكل همه أن ينهي الأشواط السبعة . أما على صعيد عرفات فترى العجب حيث يتركز كل همهم في المأكل والمشرب ، بل ان عدد ليس بالقليل منهم يجلسون يتسامرون يشربون الشاي ويدخنون .
فما أحوجنا أن نشعر بنعمة الاسلام، ونقيم شعائره بصدق اقامة تؤثرفي الفكر وفي السلوك، وليست مجرد أداء شكلي لاكتساب لقب الحاج، عندها فقط يمكن ان نعود لموقع الريادة العالمية من جديد .