تمر السنون وتتعاقب الأعوام، ويظل نصرُ أكتوبر أكبر إنجاز للعسكرية المصرية فى العصر الحديث، فقد استطاعت مصرُ من خلاله – شعبا وجيشا – أن تُحطم أسطورة الكيان الصهيونى، المُسماة خط بارليف، الذى ما انفك جنود إسرائيل قبل المعركة يتغنون بقوته وعظمته، التى تجعله فى منعة من أن تطأه أقدام العسكرية المصرية !
وها نحن نحتفل بالذكري ٤٦ لمعركة الكرامة، التي خاض جيش مصر الباسل غمارها ببسالة وشرف أدهشت العالم من أقصاه إلي أقصاه، ورغم كثرة ما أُريق فيها من دماء الشهداء الطاهرة، إلا أن ما حققته مصر من انتصار للكرامة، وضرب لأروع أمثلة الدفاع عن الأرض والعرض، أمر فاق الخيال.
فى تلك المعركة، كان جنودنا أشبه بمارد خرج من قمقمه ، وانبرى يُلقن العدو دروسا فى الوطنية والفداء، ستظل أبد الدهر منهلا للباحثين عن الحرية والكرامة.
إن انتصار أكتوبر هو ملحمة وطنية قادها الشعب قبل الجيش، حيث انصهرت كل أطيافه فى بوتقة واحدة، ونحت الخلافات السياسية والمذهبية، بل والعقائدية جانبا، وجعلت همها الأوحد، هو التخلص من عدو غاشم، اقتحم الديار وسلب الأموال، وسام الأطفال والنساء ويلات العذاب.
ولا شك أن العبرة من استحضار أكتوبر، ليست بالتغنى بأمجاد الآباء والأجداد، الذين حققوا نصرا مؤزرا سيبقى فخرا لكل الأجيال، بل في استلهام تلك الروح الوثابة، التي صنعت معجزة النصر، الذي أذهل العالم، تلك الروح التي تتطلب أن ينحي المصريون مشكلاتهم الجانبية، وينضموا لكتيبة العمل والبناء.
العبرة من نصر أكتوبر هى الوقوف علي الدروس المُستفادة، ومنها تتضح قوةُ الإرادة المصرية، التى حققت للشعب ذلك النصر المبين ، وحقا صدق أبو القاسم الشابى: إذا الشعبُ يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر!
تلك الإرادة التى هانت معها كل الصعاب، وسالت من أجلها دماء شهدائنا الطاهرة، وأضحت معها النفسُ رخيصة؛ طمعا فى تحقيق غاية عظمى وهى النصر على العدو.
من دروس أكتوبر التى أهملناها كعرب، مايسمى بـ (التضامن العربى)، الذى استُغل كورقة رابحة فى حرب أكتوبر، حينما تكاتفت دولُ النفط ، واستخدمت سلاح البترول بقوة وكفاءة للضغط على إسرائيل وحلفائها، الذين فهموا الدرس جيدا، وعلموا أن العرب أشبه بالجسد الواحد، إذا اشتكي منه عضو تداعت له سائر الأعداء بالحمي والسهر.
العبرة من نصر أكتوبر أن نثق من أنه إذا كنا قد تغلبنا علي عدو صهيوني غاشم ملأه الصلف والغرور، وظن أنه لا يقهر، فإنه من السهل التغلب علي مشكلاتنا الداخلية، وذلك بانزواء الأنا، وترسيخ قيمة الانتماء، والعمل الجاد والدءوب من أجل نهضة مصرنا الحبيبة.
وأخيرا العبرة من نصر أكتوبر أن نرسخ لفكرة التضامن العربي، لأننا جميعا في مركب واحد، لو تكاتفت جهودنا وصلنا لبر الأمان، أما لو سادت لغة الأنا، ورفعت كل دولة شعار.. أنا ومن بعدي الطوفان، فإن الهلاك والدمار سيكون مصير الكل، وساعتها سنتذكر مقولة الثور الأسود.. إنما أكلت حينما أكل الثور الأبيض.