تصاعدت الاحتجاجات اللبنانية الشعبية التي بدأت في 17 تشرين أول/ أكتوبر 2019، إثر إعلان الحكومة عن خطتها بفرض ضرائب جديدة على التبغ والبنزين، واستحداثها رسوم على استخدام الاتصالات عبر الانترنت (واتساب)، ليصبح مطلبها إسقاط الحكومة والنظام اللبناني برمته الذي يقوم على قانون انتخابي عماده التوازن بين الطوائف. وعلى الرغم من تراجع الحكومة اللبنانية عن فرض ضرائب جديدة وطرحها لخطة إصلاحية عاجلة، إلا أنها لم تفلح في إخماد نيران الاحتجاجات، بل على العكس فإنها تتوسع وتزداد وتيرتها يوماً بعد يوم.
تميزت الاحتجاجات اللبنانية بصورتها السلمية الوردية، وبعدم صبغها بأي لون سياسي أو طائفي، حيث أنها تستهدف جميع أحزاب النخبة الحاكمة بلا استثناء. وعليه فإن سؤالنا الذي نطرحه هنا تحت تأثير قراءتنا للمشهد اللبناني والمواقف الإقليمية والدولية، يتمحور في مدى إمكانية تحقيق هذا الحراك مطالبه، وما هي التحديات التي تواجهه، وإلى أين يسير؟.
لماذا لم تنجح خطة الحريري الإصلاحية؟
سارع رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحرير ي بعد أيام معدودة على الاحتجاجات الشعبية، إلى طرح خطة إصلاحية، تقوم أبرز بنودها على عدم فرض ضرائب للعام 2020، وتخفيض رواتب الوزراء، وإنشاء هيئة لمكافحة الفساد، وإجراء انتخابات مبكرة، إلا أن خطة الحريري لم تنجح في تهدئة الشارع المنتفض، الذي رفع سقف مطالبه إلى إسقاط النظام السياسي برمته.
لعلّ خطة الحريري كانت مُستعجلة، ولم تُراعي عقول المحتجين، حيث أن إنشاء هيئة لمكافحة الفساد هي فكرة قديمة، فحتى فلسطين التي لم تحصل بعد على دولتها المستقلة، لدى سلطتها هيئة لمكافحة الفساد. وأما مسألة الانتخابات المبكرة، فهي لا فائدة منها، في ظل قانون الانتخاب الطائفي الموجود، كونها بلا شك ستعيد إنتاج حكومة جديدة قديمة.
الحراك في عيون الأحزاب اللبنانية والأطراف الدولية ذات العلاقة
يمكن القول أن موقف كل حزب لبناني من الاحتجاجات الشعبية اللبنانية، رُسم بحسب وزنه وثقله السياسي، إلى جانب مصالحه التي يعمل من منطلقها، بما يراه مناسباً، ليحدد ملامح دوره في المشهد السياسي ما بعد الاحتجاجات.
ما زال سعد الحريري (تيار المستقبل) يناور عبر طرح خطط إصلاحية، وميشيل عون (التيار الوطني الحر) يرى بأن “الاحتجاج فيه ظلم كبير بتعميم الفساد”، ووليد جنبلاط (الحزب التقدمي الاشتراكي) متوازناً يدعم الاحتجاج ولا يريد أن يترك الحريري وحيداً في آن . أما حزب الله فيهدد باستخدام القوة، ويدعم استمرار الحكومة بكل جوارحه، وتدعمه حركة أمل في هذا الموقف. بمعنى أن هناك اتفاق بين هذه الأحزاب على قاعدة “التحالف من أجل البقاء”، وإن كان غير معلناً. حيث يبدو أن المواقف الحزبية التي تتراوح ما بين اللين والشدة تندرج في إطار لعبة الشرطي السيء والشرطي الجيد.
أما فيما يخص الانسحاب الأحادي من الحكومة، والذي قام به أربع وزراء من حزب الكتائب اللبنانية ، فإنه لا يمكن أن يندرج في إطار الدعم الكامل للاحتجاجات اللبنانية، لحقيقة أن قائد الحزب سمير جعجع هو بطبيعته يدعم القانون الانتخابي الطائفي. وعليه يمكن القول بأن هذه الخطوة يُراد تصويرها بأنها “تأويلية مثالية”، قد تُكسب الحزب نقاط إضافية في البورصة اللبنانية الشعبية. ولكنها تنطلق من مصلحة حزبية مطلقة، ومن موقف الحزب المعادي لسوريا وحليفتها حزب الله، وبالتأكيد من المصلحة المشتركة مع “إسرائيل” المهتمة باستمرار هذا الحراك وإبقاء الوضع اللبناني غير مستقر، وعلى وجه الخصوص حزب الله، وضرورة إضعافه.
فيما يخص انخراط الحزب الشيوعي اللبناني في الانتفاضة الشعبية، و محاولة تزعم وتصدّر الحراك عبر المشاركة في مقدمة صفوفه، وطرحه مبادرة تناسب تطلعات الجماهير المنتفضة، فإن ذلك يأتي من باب محاولة الحزب تقوية صلته بالناس، خصوصاً بعد الخسارة الفادحة التي مُني بها الشيوعي في الانتخابات الأخيرة. وبلا شك فإن الشيوعي سيخرج بفعل هذا الحراك أكثر قوة مما سبق، خصوصاً وأن حضور الفنان مارسيل خليفة وتحميس الشارع اللبناني لم يكن عبثاً برأيي، كونه يميل إلى الحزب الشيوعي وإن لم يكن يوماً ملتزماً به.
فلسطينياً، وبالرغم من حرص المستوى الرسمي على اتباع سياسة عدم التدخل في الشأن الداخلي للدول العربية. فإن الحراك يسير في صالح المخيمات الفلسطينية في لبنان، التي أطلقت حراكاً قبل فترة وجيزة من الحراك اللبناني احتجاجاً على خطة الحكومة اللبنانية التي استهدفت اللاجئين الفلسطينيين، من ضمن ما أسمته “مكافحة العمالة غير الشرعية”.
فيما يخص موقف المعسكر الخليجي المناوىء لإيران وحلفاءها، فقد أظهر فيديو تم تداوله على صفحات التواصل الاجتماعي يوم الأحد الموافق 20 تشرين أول/ أكتوبر 2019، عناصر أمن مطار الكويت وهم يقدمون وروداً للوافدين من لبنان إلى الكويت، في رسالة تأييدية واضحة للاحتجاجات الشعبية اللبنانية، تعبر عن الموقف الخليجي ككل. وفي المقابل فقد وصفت إيران الاحتجاج بأنها “امتدادا للمؤامرة التي شهدها العراق”.
خلّفت الاحتجاجات اللبنانية مشهداً معقداً، اتفقت فيه أغلبية الأحزاب الحاكمة المختلفة أيديولوجياً على ضرورة استمرار الحكومة، والمثير أيضاً في هذه الاحتجاجات أنها تُعد مصلحة فلسطينية وأيضاً إسرائيلية!. وفي المقابل فإنها حوّلت لبنان إلى ساحة إضافية لتصفية الحسابات بين المعسكرين الإيراني والخليجي.
رهان الشارع على الجيش اللبناني
سيناريوهات معقدة تنتظر لبنان، لن يكون لون أي منها وردي، كما هي الاحتجاجات الشعبية. فالحكومة إن تعاملت بمنطق النظام الشمولي المستعد للتضحية بمواطنيه من أجل استمرار الدولة، لن تنجح في تخطي الأزمة. و أن قامت بحل نفسها لتُشكّل حكومة جديدة، فإنها ستكون على نفس المنوال طالما قانون الانتخاب اللبناني لم يتم تعديله بشكل جوهري، لأن القانون المعمول به يساهم في ترسيخ التعصب المذهبي ويُعطي الأفضلية للأحزاب الكبرى والسياسيين المتنفّذين. فهل تنجح الجماهير المنتفضة في فرض تغيير القانون الانتخابي عن بكرة أبيه، وهل الرهان على الجيش اللبناني في مكانه؟
تصدرت الاحتجاجات بشكل لافت هتافات “كلكن يعني كلكن.. إلا الجيش اللبناني”، لا سيما على مواقع التواصل الاجتماعي، مع انتشار صور قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون. وتعالت أصوات نسبة كبيرة من المحتجين، مطالبة بأن يتولى الجيش رئاسة الحكومة في مرحلة انتقالية، مع تغير أنظمة الحكم القائمة على المحاصصة الطائفية.
نقول في هذا الصدد، بأنه قد لا يكون الجيش اللبناني المنقذ المثالي الذي يتخيله البعض، لأن الجيش اللبناني لا يشكل قوة مهيمنة في المشهد اللبناني، كما هو الحال بالنسبة لمصر، ومسألة قدرته على تغيير القانون الانتخابي تبقى ضعيفة، في ظل وجود حزب الله كقوة نافذة يصاحبها دعم معظم الأحزاب المتمسكة بهذا القانون. وقد يكون استلام قائد الجيش اللبناني الأسبق ميشيل عون رئاسة الدولة، وعدم قدرته على التأثير الجذري، خير دليل على ذلك.
خاتمة
إن افترضنا جدلاً أن الشارع اللبناني المنتفض قد بلغ من الوعي درجة كبيرة تؤهله لأن يكون مثله مثل أي لاعب سياسي ماهر، وإن كان يلعب مع الحكومة لعبة (سياسة رفع المطالب)، فإن هذه اللعبة يكون فيها مطلباً خفياً ليس هو المطروح صراحةً، بحيث أن الشيء المرغوب يكون أقل منسوباً من المطلوب علناً.
انطلاقاً من فكرة اللعبة السياسية، فإن قيام الحكومة بحلّ نفسها، وإجراء انتخابات سريعة، بالقانون الانتخابي المعمول به، تتغير فيها الوجوه “المكروهة” دون تغيير القوى التقليدية نفسها، إضافة إلى تقديم تسهيلات اقتصادية أكثر بكثير من التي قدمتها خطة الحريري، يلمس المواطن أثرها في فترة زمنية قصيرة، قد يكون حلاً يرضي الكل اللبناني وينهي مشاهد الاحتجاجات بصورتها القوية الحالية.
إن افتراضنا بإمكانية حل الأزمة وتهدئة الشارع اللبناني عبر تقديم تسهيلات اقتصادية مثيرة للمواطن اللبناني، دون الحاجة إلى تغيير القانون الانتخابي الحالي، ينبع من حقيقة أن سوء الأوضاع الاقتصادية مثّل الشرارة الأولى للاحتجاجات الشعبية. ولكن في الختام مما لا شك فيه، فإن كيفية تعاطي الكل اللبناني مع قانون الانتخاب ستكون الحجر الأساس لتأزيم الوضع أو انفراجه.
كاتب وباحث فلسطيني
fadiabubaker@hotmail.com