يتصور كثيرون ان مفهوم الأمن القومي ينحصر في الأخطار والتهديدات الخارجية التي تحيط بالوطن أو المؤامرات التي تحاك بليل ضده لتقسيمه أو تفتيت وحدته الوطنية أو زرع عملاء وخونه داخل نسيجه الشعبي..
لكن الحقيقة أن هذا المفهوم بالنسبة للدول المحورية مثل مصر يمتد ليلامس القضايا الداخلية بنفس القدر من الأهمية .. لقد شاء القدر أن تواجه مصر بعد الربيع العربي مستجدات لم تكن مطروحة من قبل وذلك نتيجة للتغييرات في التوازنات الإقليمية وتداخل المصالح العالمية مع مناطق الصراع بالشرق الأوسط ومحاولة تطويعها لتحقيق أقصي الاستفادة للدول الكبري..
في هذه المساحة المحدودة لا يمكن طرح كل الأخطار وسبل مواجهتها ولكن أهمها الآن قضية سد النهضة الإثيوبي الهادف إلي حرمان مصر من جزء من حصتها السنوية من مياه النيل .. خصوصاً وأن المفاوضات الثلاثية بين مصر والسودان وإثيوبيا برعاية ومراقبة واشنطن والبنك الدولي فشلت في جولتين وتعقد الثالثة والأخيرة في يناير القادم .. هدفنا الاستراتيجي هو الوصول لاتفاق يحقق رغبة مصر في ملء السد وتشغيله حسب شروطنا وهو أن تمتد فترة الملء لسبعة أعوام أو عشرة بينما تصر أديس أبابا علي الانتهاء منه في 3 سنوات ..
الإعلام المصري والغربي والسوشيال ميديا تصور الأمر وكأننا خانعون ذليلون أمام الطرف الآخر الذي سينفذ رغباته ويقرنها تارة بتهديد عسكري وأخري بتأييد قانوني دولي .. مصر رغم أخطاء التفاوض الأولي مازالت تملك كارتا هاماً وهذا هو واجب الخبراء التركيز عليه .. ورقتنا الرابحة هي الانسحاب من اتفاقية الربط الكهربائي الموقعة مع السودان وإثيوبيا .. الانسحاب المصري سيجعل السد بلا قيمة فلن تستطيع إثيوبيا الاستفادة من كهرباء السد محلياً او تصديرها للدول العربية وشمال البحر المتوسط كما كانت تخطط .. الانسحاب من الربط الكهربائي يوقف علي الفور سد النهضة ويجهض أي محاولات أخري لبناء سدود علي النيل الأزرق .. أول ضربة جاءت من الرئيس السيسي الأسبوع الماضي عندما أعلن استعداد مصر لتصدير 20% من مخزون كهرباء مصر لدول إفريقيا بنصف الثمن ..
مصر ياسادة هي محطة التصدير الكهربائي لإفريقيا وغيرهاوهو ما خطط له منذ بدء إنشاء الشبكة وزراء الكهرباء السابقون ماهر أباظة وعلي الصعيدي وحسن يونس من 1998 إلي 2010 .. لكن المشكلة هنا في مصر أننا نتعرض لنيران صديقة فوزارة الكهرباء المسئولة عن الربط الكهربائي مع السودان وإثيوبيا لم تشارك ولن تحضر مفاوضات سد النهضة .. وبالتالي هي مستمرة مع هيئاتها في التأكيد كل حين أن الربط الكهربائي مع الخرطوم وأديس أبابا مستمر رغم مشاكل وتعثر مفاوضات سد النهضة .. بالذمة ده كلام .. الحكومة جزر منعزلة .. لابد من عصا مايسترو تحكم الأداء..
التحدي الآخر الذي نواجهه هو تعظيم الموارد وزيادة الإنتاج وجذب الاستثمارات لتحقيق تنمية مستدامة .. ومع ذلك أعلن وزير المالية د.محمد معيط يوم الأحد 7 ديسمبر الحالي أن 85% من مواردنا تجئ من الضرائب .. هذه كارثة .. اقتصاد دولة يقوم علي الضرائب يعني ببساطة انها طاردة للاستثمار .. هذا عكس ماتقوله الدولة من زيادة ايرادات قناة السويس وتحقيق الصادرات الزراعية والغاز لارقام ضخمة..تناغم الأداء مطلوب .. ومرة أخري نفتقد عصا المايسترو لتعزف الحكوم لحنا متوافقا ومتجانساً .. بدلاً من التنافر والنشاز .. والأمثلة كثيرة ..
أيضاً في مسألة الاقتصاد .. وزير المالية طرح أول ديسمبر إذون خزانة بقيمة 18 مليار جنيه .. ثم إذون أخري بعدها بأسبوع بقيمة مليار دولار .. هذا بخلاف الـ500 مليون دولار المطروحة في نوفمبر الماضي .. في ذات الوقت يعلن محافظ البنك المركزي أن الاحتياطي الدولاري المصري غير مسبوق علي مر التاريخ .. أي أنهم يعتمدون علي أدوات الدين طويلة الأجل وليست القصيرة مثل الآن .. عصا المايسترو مطلوبة لضبط الإيقاع فلا تستقيم المباهاة بالاحتياطي مع الاستمرار في طرح إذون خزانة دولارية لا نعرف كيف سيتم تسديدها طالما أن مواردنا هي ضرائب فقط ..
في حوار النائب أكمل قرطام مع عمرو أديب قال بالحرف “أنا دوري كمعارض إرسال أسئلة للحكومة لكنهم للأسف لا يردوا علينا” .. والأكثر أنه قال إن الإنفاق الحكومي طبقاً لأرقام البرلمان من عام 2013 حتي الآن هو تريليون جنيه .. بينما جهات أكثر علماً ودراية تقول إن الإنفاق 4 تريليون جنيه .. وسأله أديب عن مصير الـ 3 تريليون قال لا أدري .. ما هذا؟ .. هذا اعتراف من نائب محسوب علي المعارضة أن الحكومة لا تعير التفاتا للبرلمان! ومن ثم فإن دوره التشريعي والرقابي غائب .. وأصبحت السلطة التنفيذية في وادٍ والتشريعية في وادٍ آخر..
ويبقي أن الأمن القومي خارجياً يدار بمهارة واحتراف اما القضايا الداخلية وتناول الإعلام لها فمازالت تحتاج عصا مايسترو .. المثال الأخير ما أعلنه شكري أبوعميرة عضو المجلس الأعلي للإعلام أن نشرة أخبار الساعة التاسعة ستكون موحدة علي كل الفضائيات المصرية والمحطات الأرضية والإقليمية .. أنتم تسلمون المشاهدين “تسليم مفتاح لقنوات الشر”..