لا تختلف ظروف المرأة في الصعيد، عن المرأة في القاهرة، أوفي الوجه البحري، فالجميع الأن يتعرض لنفس وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة، ويشاهد المسلسلات الهندية والتركية، ويتأثر بطريقتهم في الملبس وغيرها، فداخل البيت الصعيدي الأنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعية، لذا يمكن القول أن الفروق بين أنماط الحياة تتقلص،
ولا يوجد مجتمع مغلق على نفسه تماما، ولكن أيضا يجب القول إنه حتى مع هذه التغيرات، يظل المحرك الأساسي للمرأة هو تربيتها وعادات أهلها، وعادات بيتها، وقريتها، وهي الأقوى تأثيرا من مواقع التواصل والمسلسلات الهندي والتركي، وما تتابعه، فالجوهر لم يمس.
لذا يظل أبرز ما تحتاجه المرأة في الصعيد هو التعليم، هي وأبنائها “ولاد وبنات”، لأنه فرصتها الوحيدة لتحسين وضعها في المعادلة الاقتصادية والاجتماعية، لتكون قادرة على العمل في وظيفة جيد لا يعتبرها الرجل مهينة له، بجانب إن التعليم سيلعب دورا ضروريا في تغير أفكار الرجال فيما يتعلق بسوق العمل، وما يمكن قبوله أو رفضه، فما تعانيه محافظات الصعيد ومصر بصفة عامة، هو إنخفاض جودة التعليم.
فصعيد مصر مجتمع مشحون بالمورثات، والمكونات الثقافية والدينية، بجانب التعقيدات الطبقية والقبلية، تحت قشرة رقيقة من التحضر والتمدين، عادةً ما تُصدِّر الدراما والتلفزيون صورة نمطية منذ عشرات السنين عن المرأة الصعيدية، الضعيفة، المقهورة، الخانعة، التابعة دائمًا وأبدًا لسطوة الرجل، ويبدو أن ذلك «التصور» يفتقر إلى متابعة التغيرات التي طرأت على الصعيد بوجه عام، وعلى المرأة هناك بصورة خاصة، إذ لا يزال التلفزيون والسينما ينقلان الصورة القديمة لذلك المجتمع الغامض شديد الخصوصية في كل تفاصيله.
ربما كانت السينما والتلفزيون معذوران في تصدير تلك الصورة القاصرة عن مجتمع منغلق يعيش على الهامش، ما خفي عنه أكثر بكثير.
وربما تعمدت الدراما تقديم تلك الصورة عن المرأة، معتمدةً على جهل أبناء المدن بالجنوب وعاداته، فتصديرها بتلك الصورة السطحية، التي عادةً ما تكون شيقة وجذابة أكثر من الصورة المعقدة، يمنحها قابلية رواج وانتشار، وبالتالي مزيدًا من الشهرة والمال لأصحاب العمل الفني. تنقل الدراما كيف تُساق الأرملة الصعيدية إلى بيت شقيق الزوج المتوفى لتصبح إحدى نسائه، ويخضع أبناؤها لإمْرَته،
في الصعيد، تربي الأم رجالها ليكونوا أشداء على نسائهم، يُخضعوهن لإرادتهم، يسوقون مصائرهن كيفما يشاؤون، تربيهم ليقهروا نساءهم ويضربوهن، وفي المقابل، تربي بناتها على ألا يُقهَرن أو يخضعن لأزواجهن،
تربيهن على الذكاء والحيلة، بل المكر أحيانًا، على إظهار ضعفهن لرجالهن، حتى يستطعن تملُّك أمرهم وقيادتهم بحنكة وذكاء، حتى يتمكنّ من إعلاء كلماتهن وإن بدا للكل غير ذلك.
المرأة الصعيدية هي «ست الدار»، لها كلمة نافذة على زوجها، هي الإدارة حتى إذا ادّعى الرجل غير ذلك. ليست معدومة الحيلة
«في معظم مناطق الصعيد، المرأة صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة، تتعامل مع الرجل بذكاء فطري وضعف في آنٍ واحد، هي الحاكمة لكن في الخفاء بينها وبين زوجها، أما في الجلسات العامة فيَظهر الرجل كأنه صاحب الكلمة العليا بينما هو يُعيد ما تمليه عليه زوجته سرًّا».
الرجل في الصعيد يملك ولا يحكم، في حين أن المرأة، في كثير من الأحيان، هي المعنية والمسؤولة عن كل تفاصيل الحياة اليومية. يرجع الرجل إلى زوجته في كل كبيرة وصغيرة، هي المدبرة والحكيمة في تسيير الأمور، ولا يمنعها ذلك من إعطاء الرجل وضعه ومكانته بينها وبينه بالحيلة والذكاء،
أن المرأة الجنوبية تريد لأبنائها السيطرة والتحكم في زمام الأمور، لكن الأفضلية دائمًا تبقى لابنها الذكر: «تثق دائمًا أنها وبناتها لا يساوين شيئًا دون الذكر، فتسمح له بمساحة من الحرية ولو على حساب ابنتها».
لا ضَير أن تتخطى تلك المساحة حدود الشرع والحقوق، فقرية «الرياينة» ليست معزولة عن باقي قرى محافظات الصعيد البالغ عددها 11 محافظة، التي تُحرم المرأة، في معظمها، من الميراث.
أن نسبة تقترب من 95% من النساء في المحافظتين محرومات من الميراث، بسبب الثقافة السائدة بأن الميراث سينتقل إلى أشخاص أغراب عن العائلة لو مُنحت النساء حقوقهن في الميراث.
تحمل المرأة على عاتقها نقل التراث والعادات والثقافة القاسية من جيل إلى جيل، تعاني من القهر صغيرةً، وتمارسه على بنات جنسها كبيرةً، هي التي تسمح للأخ بضرب أخته، بل وتحرضه على قتلها لو تعلق الأمر بالشرف.
فالمرأة الغنية هناك تسمى شيخة عرب، فالمال يجعل لها كلمة نافذة، لأنها به تستطيع خلق بؤرة قوة، تعطي الفقير، تفتح دارها لإطعام اللاجئين والحَلَب (الغجر)، فتستطيع تجميعهم حولها، وتصير مكانتها أكبر من المرأة الفقيرة، ويمكنها أن تواجه زوجها لأن «ضهرها مسنود»:
بعد خلافات طويلة مع الأم وضرب مبرح من الشقيق، حصلت فاطمة على الطلاق في القاهرة، وأخفت عنهما الأمر لشهور. قاطعها نصف أبناء العائلة حين عرفوا، لكنها رفضت أن تعود إلى الصعيد، إنها أم لذكرين، كان قرارها من رأسها وفرضته على الجميع، أقامت في العاصمة وعملت لتنفق على رَجُليها.
أن حالات الطلاق ارتفعت في الصعيد بشكل عام خلال السنوات الأخيرة، فالتعليم ودراية المرأة بحقوقها جعلاها تطالب بها «في الحضر وليس في القرى، ففي القرى الأمر أكثر صعوبة، وإذا تطلقت امرأة تعاني كثيرًا، ولا تستطيع الزواج مرةً أخرى في أغلب الأماكن الصعيدية».
الجدة في الصعيد لها مكانة عظيمة استمدتها من الثقافة المتوارثة هناك، التي تقضي باحترام الكبير ذكرًا كان أو أنثى. المرأة كبيرة السن ليست مطمعًا من الناحية الجنسية في الأساس «يعطيها السن حصانة واحترامًا من الجميع بحكم العادات، فيتعامل معها الجميع كإنسان وليس أنثى، تحتك بالرجال ولها كلمة مسموعة ونافذة بحكم سنها وعادات وتقاليد المجتمع الصعيدي».
لا تبقى المرأة الصعيدية حكيمة طوال الزمان، بل تحمل أيضًا قدرًا لا يُستهان به من الرعونة، فقد تكون المحرضة الأولى على الأخذ بالثأر.
يُروى أنه في بدايات القرن الماضي وقفت قبيلتان تنتميان إلى إحدى قرى صعيد مصر متحفزتين للتناحر، معتزمتين إسالة بحور من الدماء، بعد أن صفع أحد أبناء قبيلة منهما ابنًا للقبيلة الأخرى صفعة مهينة على وجهه.
لا تبقى المرأة الصعيدية حكيمة طوال الزمان، بل تحمل أيضًا قدرًا لا يُستهان به من الرعونة، فلا تحقن الدماء طوال الوقت كما الجدة «مزيونة»، بل تكون كذلك المحرضة الأولى على الأخذ بالثأر، وتلعب ذلك الدور بكفاءة.
لا تنسى المرأة الصعيدية ثأرها بمرور الزمن، فهو يدعم وجودها ووضعها ومكانتها، يجعلها مسيطرة، تستمد من الثأر قوتها، لأنها تكون حامية التقاليد والعادات الصعيدية، بحسب نصر. «رغم أنها المضرورة الأولى من الثأر، الذي قد يأخذ ابنها أو زوجها أو شقيقها أو والدها، لكنها تجد في مطالبتها به ذاتها، فهي تطالب بعادة وعرف سائد، وحين يتراخى الذكور، تذكرهم بتلك العادات فيعترفون لها بأنها حارس تقاليد المجتمع»، لان تغيير ثقافة المرأة في الصعيد هو الذي سينهي عمليات الثأر، وليس ثقافة الرجل.
في جلسات المصالحة العرفية لقضايا الثأر (الجودة أو القودة كما يُطلَق عليها)، يقدم المتهم كفنه في حضور العائلة وكبار العائلات الأخرى وأفراد من مديرية الأمن في المحافظة، ينتهي الوضع عادةً بالمصالحة وقبول الكفن،
وبذلك يسقط الحق في الأخذ بالثأر، لكن لتأثير المرأة الصعيدية على الرجل مثل السحر، تحرضه بعد الرجوع إلى بيته وفض جلسة المصالحة على الأخذ بالثأر، وتزن عليه ليل نهار حتى يسحب كلمته ووعده وينفذ كلمتها ويثأر.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان