لست صوفيا ، لكنى أحب الصوفية الحقة التى أخذت إسمها من الزهد ولبس الصوف الخشن ، أو من صفاء الروح وتصفية القلب ، وأقرأ كثيرا فى التراث الفكرى والشعرى للصوفية ، أعتبره محطة للراحة النفسية والرياضة الروحية ، ولا أجد حرجا أو تناقضا فى أن أكون مشتبكا مع قضايا عصرى بكل تنويعاتها وتعقيداتها والاستمتاع بالتراث الصوفى القويم غير المبتدع ، وفى يقينى أن هذا التراث استطاع خلال القرون السابقة أن يقيم بناء فكريا متكاملا ومتميزا عن أبنية فكرية أخرى أقامتها مدارس ومذاهب عديدة تنتمى كلها إلى الإسلام ، أبنية تتداخل وتتساند ولا تتنافر ، وكلما زادت درجة الوعى وارتفع المستوى الثقافى وحسنت النيات اتسعت دائرة التلاقى بين هذه الأبنية الفكرية ، وسقطت الفواصل القائمة بينها ، وصار الجمع والتوفيق والتقريب بينها سهلا ميسورا ، ” وكلهم من رسول الله ملتمس ..غرفا من البحر أو رشفا من الديم “.
والذين يروجون اليوم للصوفية على أنها يمكن أن تشكل تيارا متساهلا تجاه الشريعة والعبادات والأحكام الشرعية واهمون ، أو جاهلون بحقيقة التصوف ، يظنونه محصورا فى لزوم الأضرحة وموالد الأولياء وحلقات الذكر والتفرغ للوجد والهيام ، بينما التصوف الحق عودة إلى الأصول الرائقة للدين ، فلا يكون الصوفى صوفيا حتى يكون الأكثر التزاما بما فى كتاب الله من عقيدة وشريعة وعبادات ومعاملات وأخلاق ، ثم يتدرج فى معارج المعرفة حتى يبلغ الذروة ، وحينئذ يلزم نفسه فوق مايلزم العامة .
التصوف الحق لايعنى الانفلات من الشريعة أو التهاون فى أداء فرائض العبادة كما يفعل بعض المدعين ، والأصل أن التصوف طريق يبدأ من حيث تنتهى الشريعة ، وبغير الشريعة والحقيقة يكون الإنسان قد تزندق ، وهذه نقطة مهمة توقف عندها العارفون فقالوا : ” من لاشريعة له لاتصوف له ” ، والزهد الصوفى يعنى التعالى على مفاتن الدنيا وإغراءاتها ، لكنه لايعنى الانسحاب من الحياة وتغييب العقل والإغراق فى الباطن والجوانيات واللهو على غير هدى والإعراض عن قضايا الأمة ومصالح البلاد والعباد .
يقول أبو تراب التخبشى : الصوفى لايكدره شيء ويصفو به كل شيء ” ، نعم هذا صحيح ، وصحيح أيضا أن تراث الصوفية حافل بالأبطال الذين شاركوا فى الجهاد ضد الحملات الصليبية ، وأشهر شاهد على ذلك ماعرف عن السيد أحمد البدوى من جلب الأسرى الأعداء واستقبال الناس له بهتاف ” الله الله يابدوى جاب اليسرى ” ، ومعروف أن قلب الهمزة ياء من لغة العرب .
يقيم الصوفية مذهبهم على الحب والتواضع ، فهم يرون أن الحب هو السر وراء خلق الأكوان والإنسان ، الله أحبنا قبل أن نحبه ، وذكرنا قبل أن نذكره ، وعرفنا قبل أن نعرفه ، وطلبنا قبل أن نطلبه ، وأعطانا قبل أن نسأله ، ولولا هذا الحب الإلهى الذى يشيع فى الكون كله ، وهذا العطاء والكرم الربانى ، ماكان هناك وجود ولا عوالم ولا بشر ولا خلائق ، لقد خلقنا الله وهو المستغنى عنا لأنه يحبنا ، ما يعنى أن الحب بدأ أولا من الله قبل أن يبدأ منا ، وهذا الحب القديم يستوجب منا أن نرتفع لمستوى الموقف ن ونتعلم عشق الحق .
يقول جلال الدين الرومى : ” كل ما أقوله عن شرح العشق أخجل منه عندما أواجه العشق ذاته … وإذا كانت حركة اللسان تضيء الطريق أمام معرفة الحقيقة فإن العشق الصامت أبلغ من كل بيان … فبينما القلم مندفع فى الكتابة إذا به ينشق على نفسه حين جاء إلى العشق ” ، ويقول أيضا : إن الروح التى ليس شعارها الحب الحقيقى من الخير ألا توجد ، لأن وجودها ليس سوى عار ، كن ثملا بالحب فإن الوجود كله محبة ، وبدون التعامل مع الحب فلا سبيل إلى الحبيب ” .
ولا يكون الصوفي صوفيا إلا إذا تواضع تواضعا لايكاد يرى نفسه فيه شيئا مذكورا ، تواضع الخاطئين أمثالنا حسنة ، لكنه عند الصوفية غرور ، وعند المقربين ذنب كبير، وكل شيء فى الدنيا نسبى كما نعلم ، ويقال فى الأثر : ” حسنات الأبرار سيئات المقربين ” .
قال الجنيد : ” التواضع عند أهل التوحيد تكبر ” ، قيل له : لماذا ياسيدى ؟ ، قال : لأن المتواضع يرى نفسه أولا لكى يتواضع ، وهو يثبت نفسه ثم يتواضع بها ، أما الموحد الحقيقى فلا يرى نفسه لكى يضعها أو يرفعها ” ، المتواضع الحقيقى تذهب نفسه حين يشهد ربه ، أو كما قال ذو النون المصرى : ” من نظر إلى سلطان الله لم ير سلطانا لنفسه ، ولم ير نفسه “.