الصوفية ـ كما يقولون عن أنفسهم ـ أصحاب أحوال وليسوا أصحاب أقوال، يقيمون فى حال العبودية، ويسافرون فى الزمان الداخلى من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، ومن مذاق إلى مذاق، ويجاهدون فى جميع الأحوال حتى يصلوا إلى نهاية الطريق، أو بدايته، وهو المعرفة، فالمعرفة هى غاية الطريق الصوفى، وموضوعها هو أجل الموضوعات وأخطرها، إنه “التوحيد”، لكن التوحيد هنا يختلف عن التوحيد فى بيئة التدين العادية، لأنه توحيد ذوقى شعورى قلبى، يجرد فيه الإنسان نفسه من رؤيته لنفسه، يذهب هو ولا يبقى سوى الله سبحانه وتعالى ، وهذا مايسميه الصوفية بـالفناء ، بمعنى أن الذات نفسها تذوب ، ويختفى التأمل الذاتى فى الوجود ، وينمحى الوجود الخاص فى الوجود الحقيقى الشامل، وهذا يحتاج إلى قدرة هائلة على الحب، قدرة خاصة جدا .
دعك من غلاة الباطنية ومقولاتهم الملتبسةعن مقام الفناء والحلول والاتحاد والتجسيد، ومن شبهات الحلاج وابن عربى ومن لف لفهما وغرق فى مجازاتهما وتهويماتهما التى أخرجت الدين من يساطته وأدخلت عليه بدعا أفسدت حياة الناس، وشغلتهم عن قضايا أمتهم الحقيقية ، وأخذتهم إلى جدل لاينتهى فى علم لاينفع وجهل لايضر، ودعك أيضا من التصوف السقيم الذى تحول على يد البعض من تجربة روحية قائمة على الزهد والحب والتواضع إلى فرق وطرق وتنظيمات إدارية، فانطبق عليها قول القائل: ” كان التصوف حالا فصار كارا، وكان احتسابا فصار اكتسابا، وكان استتارا فصار اشتهارا، وكان تقشفا فصار تكلفا، وكان تجريدا فصار ثريدا “.
لاأتحدث هناعن الفرق والطرق الصوفية، وإنما أتحدث عن الفكر الصوفى القويم، الذى ينظر إلى العالم فيرى الحب قانونا حاكما فى الوجود، وسببا فى ميلاد الكون، ونسيجا يشف به ثوب الكون على رحابته وجلاله، فالصوفية الحقة ترى أن الله خلقنا لكى يتفضل علينا ويحسن إلينا بحبه، ثم يعود للإحسان والتفضل حين يسمح لنا بحبه وعبادته، وهذا يتجلى فى الآية الكريمة التى يقول فيها الحق جل شأنه: ” ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه”، فالله لايخوف الذين يرتدون عن دينه بأن يلقيهم فى النار، ولابعذاب الدنيا، وإنما يخوفهم بالحب، بأن يستبدل بهم قوما يحبهم ويحبونه، فالارتداد عن الدين أسأ مافى الوجود من الشرك، ومع ذلك فإن الله يحاربه بأرق مافى الوجود وهو الحب، ولم يقل للمرتدين إنه سيستبدلهم بقوم أكثر صلاحا وتقوى، فهناك مسافة أبعد من الصلاح والتقوى، مسافة لها قيمتها الخاصة، مسافة المحبين.
وإذا كانت بصمات كل إنسان تختلف عن الآخر فكذلك تختلف التجربة الروحية عند من ينتسبون للتصوف، كل له تجربته وله أحواله وله طريقه، ولذلك يقول العارفون بالله: ” الطرق إلى الله تعالى بعدد الخلق، لكل إنسان طريقه إلى الحق”، وكل طريق هو نتاج التجربة الروحية الخاصة التى يشرق فيها الحق جل شأنه على قلب عبده، أما موضوع التجربة فهو التوحيد، أو بمعنى أدق تجريد التوحيد، أو بمعنى آخر هو ارتقاء العبد فى التوحيد حتى يصل إلى مرتبة تفنى فيها صفاته، ويفنى وجوده أمام الله عز وجل.
فى كتابه ” المواقف والمخاطبات” يقدم لنا القطب الصوفى محمد بن عبدالجبار النفرى تجربة روحية فريدة يصدرها بقاعدة ” إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة “، فالذى يرى رؤية واسعة يتكلم بإيجاز شديد، إيجاز يحتاج إلى معاناة وجهد لإدراك ماوراء الإشارة من آفاق.
يقول النفرى فى كتابه هذا الصادر حديثا عن الهيئة العامة للكتاب، وهو بالمناسبة متاح على الإنترنت:” أوقفنى فى البحر فرأيت المراكب تغرق والألواح تطفو، ثم غرقت الألواح، وقال لى لايسلم من ركب، وقال لى خاطر من ألقى بنفسه ولم يركب، وقال لى هلك من ركب وماخاطر، وقال لى فى المخاطرة جزء من النجاة، وجاء الموج فرفع ماتحته وساح على الساحل، وقال لى لاتركب البحر فأحجبك بالآلة، ولا تثق بنفسك فيه فأحجبك به”.
والبحر عند الصوفية يرمز للدنيا بكل تجلياتها، وفيه كل الأدوات التى يعتمد عليها الإنسان فى عبوره لرحلة الحياة، كالنقود والعلم والمعرفة والعبادة، ويريد النفرى أن يقول بمخاطباته أن هذا كله هالك، فلا النقود توصلك، ولا العلم يقدمك، ولا المعرفة تنقذك، ولا الوسيلة تعبر بك، هذه كلها حجب عن الله إن توقفت عندها واعتمدت عليها، فلو نظر الإنسان إلى الآلة وقال عبرت البحر بالمركب كان فى قوله نسيان لقدرة الله الذى سخر طبيعة المياه وجعلها تحمل المركب، والأولى أن يقول عبرت المياه بقدرة الله لابأسباب العبور.
والنفرى هنا يكشف عن عمق عرفانى جديد، فالذى أوقفه فى البحرهو الله، والذى قال له ماقال هو الله، يريد منه تجريد التوحيد إلى الحد الذى لايرى معه الأداة أو الوسيلة، وإنما يرى فيه خالق الأدوات والوسائل وخالق كل شيء، أما العلم فقد يكون حجابا عن الله عندما يزهو الإنسان بعلمه، والمعرفة قد تكون حجابا عن الله حين يتصور الإنسان أنه قد وصل بمعرفته، وهكذا يمضى فى تجريد التوحيد حتى لايرى سوى الحق، والحق سبحانه وحده.
وهذا “ذو النون” يصادف شيخا يتعبد منفردا فى الصحراء فسأله: ماتجريد التوحيد؟ قال الشيخ: فقدان رؤية ماسواه ، ثم سأله: مااسم الله الأعظم؟ قال: أن تقول الله وأنت تهابه، قال ذو النون: كثيرا ما أقول ولا تداخلنى هيبة ، قال الشيخ: لأنك تقول الله من حيث أنت لامن حيث هو، قال ذوالنون: بم تنصحنى؟ قال: أن تحبه وحده ، وقرأ الشيخ دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ” اللهم إنى أسألك حبك، وحب من يحبك، وعملا يقربنى إلى حبك “.