حين نتحدث عن تراث الصوفية نلاحظ أن معظم أقطابهم كانوا فلاسفة أو شعراء أو أصحاب طبيعة أدبية، وكانت آثارهم التى تركوها أدبا من أرقى أنواع الأدب، وأشعارهم من أرق وأعذب وأعمق قصائد الشعر العربى، وبصفة عامة ارتبط التصوف بشعر الحب الإلهى والمدائح النبوية، ويعرف الشعر الصوفى بأنه ذلك الشعر الذى يتخذ من حب الله جل شأنه وحب الرسول صلى الله عليه وسلم موضوعا له، ويكون هدفه التعبد والتقرب ورجاء العفو ومغفرة الذنوب، وبغض النظرعن اختلاف العلماء تجاه هذا الشعر فإنه يشكل صورة سمحة للروح المسلمة النقية الأوابة مالم يتعد الضوابط الشرعية.
وأكثر مايميز الشعر الصوفى صدق العاطفة والمشاعر وتدفق الأحاسيس، إذ كان الشعراء يكتبون مايجول فى خواطرهم من شوق وهيام وحب لله تعالى ولرسوله، ويسجلون نجواهم التى هى معراج أرواحهم إلى الملكوت الأعلى، راجين الوصل والود والمدد، وقد تطورهذا الفن تطورا عظيما وتعددت مواضيعه واتسعت مجالاته، واشتهر عدد كبير من الشعراء الذين أبدعوا فيه قديما وحديثا، ومنهم من صارت قصائدهم أو أبياتهم تسيرعلى ألسنة العامة من حسن تعبيرها وروعة بيانها.
فى مقدمة كتابه ” أحلى 20 قصيدة فى الحب الإلهى ” الصادر فى سلسلة مكتبة الأسرة عام 1997 يؤصل الشاعر الكبير فاروق شوشة ـ رحمه الله ـ لفكرة الحب الإلهى، ويتتبعها من جذورها، متناولا مراحل تطورها وأعلام من تكلموا فيها، فقد وردت فكرة الحب الإلهى فى القرآن الكريم فى أيات كثيرة منها قوله تعالى :” فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ” المائدة آية 54 ، وقوله تعالى ” قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ” آل عمران آية 31 ، وقوله :” والذين آمنوا أشد حبا لله ” البقرة آية 165.
كما وردت فكرة الحب الإلهى فى أحاديث عديدة عن النبى صلى الله عليه وسلم، منها قوله :” من أحب الله فليحبنى، ومن أحبنى فليحب أصحابى، ومن أحب أصحابى فليحب القرآن، ومن أحب القرآن فليحب المساجد”، وقوله :” كان من دعاء داوود يقول:اللهم إنى أسألك حبك وحب من يحبك، والعمل الذى يبلغنى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلى من نفسى وأهلى ومن الماء البارد”.
وماورد فى الكتاب والسنة كان الأساس الذى بنى عليه كبار الصوفية فكرتهم عن الحب الإلهى ، ويرى هؤلاء أن العاطفة لاالعقل هى سبيل الوصول إلى الله، وفى هذا يقول الإمام الغزالى: ” كان ذلك ـ يقصد الميل بالعاطفة ـ حال رسول الله حين تبتل، حين أقبل إلى غار حراء، حين كان يخلو فيه بربه ويتعبد، حتى قالت العرب إن محمدا عشق ربه.”
وكثيرا ماتحول الحب الإلهى عند الصوفية إلى عشق إلهى، وعرف بعضهم بشهداء العشق الإلهى بعدما هجروا الدنيا وعاشوا حياة الزهد والوحدة ، وفنوا فى حب الحبيب الأعظم، وتركوا لنا ترانيم عذبة، يبثون فيها لواعج نفوسهم وأشواقهم، ويكشفون مايلقون من الأنس والابتهاج والوجد فى حضرة الذات العلية .
وطبقا لفاروق شوشة فإن رابعة العدوية كانت أول من أجلى فكرة الحب الإلهى فى القرن الثانى الهجرى، وأطلق عليها شهيدة العشق الإلهى، ثم تطورت الفكرة بعد رابعة على أيدى الكثيرين أمثال ابن الفارض وابن عربى وأبى يزيد البسطامى وسهل بن عبدالله التسترى وأبى عبدالله القرشى، والشبلى وابن عطاء الله السكندرى والحارث المحاسبى والجنيد وعبدالله بن المبارك ويحيى بن معاذ وأبى الحسن الشاذلى وغيرهم.
فى كتاب ” شهيدة العشق الإلهى..رابعة العدوية ” ينقل فيلسوفنا الكبيرالدكتورعبدالرحمن بدوى هذه الأبيات المنسوبة لها:
أحبك حبين : حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذى هو حب الهوى
فشغلى بذكرك عمن سواكا
وأما الذى أنت أهل له
فكشفك للحجب حتى أراكا
فلا الحمد فى ذا ولا ذاك لى
ولكن لك الحمد فى ذا وذاكا
ومن أجمل ترانيم العشق الإلهى قول الحلاج:
والله ماطلعت شمس ولا غربت
إلا وحبك مقرون بأنفاسى
ولا جلست إلى قوم أحدثهم
إلا وأنت حديثى بين جلاسى
ولو قدرت على الإتيان جئتكم
سعيا على الوجه أو مشيا على الراس
ورغم هذه العذوبة التى تحمل طاقة هائلة للحب فإنى أرى أن شاعرنا طاهر أبو فاشا أفضل من تناول العشق الإلهى بمعاني رائقة ولغة أنيقة، تليق بأدب الخطاب مع مصدر الجمال والكمال، وقد توج شعره الصوفى بقصيدة تفيض بهاء وروعة يقول فيها :
غريب على باب الرجاء، طريح
يناديك موصول الجوى وينوح
يهون عذاب الجسم والروح سالم
فكيف وروح المستهام جروح
وأهواك لكنى أخاف وأستحى
إذا قلت قلبى فى هواك جريح
طريقى إليك الوجد والسهد والضنى
ودمع أدارى فى الهوى ويبوح
ولى فى طريق الشوق والليل نائم
معالم تخفى تارة، وتلوح
ولى فى مقام الوجد حال ونشوة
بسر الهوى تغدو وفيه تروح
بكيت من الهجران لامن عذابه