الفقر ظاهرة عالمية عرفتها وتعرفها كل شعوب الأرض، وقد لا تخلو منها دولة من الدول، ولا مدينة من المدن. تنخر في خلايا المجتمعات فتساهم في خلق الكثير من الآفات: سوء التغذية، الأمراض، والجهل. وأصبح ممكنًا قياس هذه الظاهرة، وأصبحنا نضع تعاريف للفقر، والفقر المدقع، وخط الفقر، والفقر الأدنى، والفقر الأعلى، ومع هذا هل هناك مفهوم ومقياس واحد للفقر؟ ولخط الفقر؟ أي هل الفقر في السودان يُقاس بالمقاييس نفسها التي يقاس بها الفقر في إسرائيل أم في كندا؟ أو في الولايات المتحدة الأميركية؟
أو أن ذلك قد يختلف من دولة إلى دولة ثانية؟ ما هي العوامل التي تساهم في عملية الفقر في دول عربية؟ ما هي آثار الفقر؟ وما هي بعض الحلول المقترحة للخروج من هذا المأزق الكبير المتنامي؟
بداية نود أن نشير إلى أن متوسط دخل الفرد في إسرائيل يوازي مجموع دخل الفرد في عشر دول عربية ويزيد (3280 دولاراً)
ولكن هل هذا يعني أن كل الاسرائيليين أغنياء، ولا يوجد في إسرائيل فقراء؟! هل هذا يعني أن كل أفراد المجتمعات العربية في الدول العشر المذكورة آنفًا هم فقراء، وهل تفتقد هذه المجتمعات إلى مواطنين متوسطي الحال، أو مواطنين أغنياء.
لن نقف عند القضية التقنية، أي لن نبحث بمقاييس خط الفقر، والفقر الأعلى، وفجوة الفقر، أو عند قياس مستويات المعيشة، وتصنيف الأسر والسكان، ما يهمُّنا هو عرض بعض أوجه هذه الظاهرة وآثارها، أي علاقتها بالمرض، والجهل، والجوع.
إن موضوع الفقر متشعب جداً، ذلك أنه حين تريد الكتابة في الفقر تجد نفسك ملزماً الكتابة في الاقتصاد وفي الاجتماع، في الناتج المحلي، في السكان، في البطالة، في العمالة، في الأمية، في الصحة، في الدَين العام، في الموازنة العامة، باختصار، لا يوجد ميدان إلا ونجد أنفسنا ملزمين خوض غماره إذا أردنا أن نوفِّيَ الموضوع حقه. في هذا البحث سنتناول نقاطًا محددة.
ما هو مفهوم الفقر؟ ما حجمه في دول عربية ودول غربية؟ ماهي بعض أسبابه؟ ماهي بعض آثاره؟ وما هي بعض الحلول المقترحة؟
أولاً: مفهوم الفقر
تعرّف المنظمات الدولية الفقر على “أنه الحالة الاقتصادية التي يفتقد فيها الفرد الدخل الكافي للحصول على المستويات الدنيا من الرعاية الصحية والغذاء والملبس والتعليم، وكل ما يعدُّ من الاحتياجات الضرورية لتأمين مستوى لائق للحياة”. واتسع هذا المفهوم واصبح أكثر شمولاً خصوصاً بعد قمة كوبنهاغن العام 2006 التي شدَّدت على أهمية حصول الفرد على الحد الأدنى من الحياة الكريمة، وتأمين بيئة سليمة، وفرص المشاركة الديمقراطية في اتخاذ القرارات في جوانب الحياة المدنية. كان المرء يعتبر فقيراً إذا كان دخله لا يستطيع أن يؤمن له الإنفاق الكافي لتأمين الحد الأدنى من حاجاته الغذائية، وأصبح الإنسان اليوم يُنعت بالفقير إذا كان غير قادر على تأمين مجموعة من الحاجات من بينها الغذاء الصحيح والسكن والملبس والطبابة والاستشفاء والصرف الصحي والمياه النقية للاستهلاك البشري،
وتوفير المستلزمات التعليمية لأفراد الأسرة، وتسديد فواتير الماء والكهرباء، وتلبية الواجبات الاجتماعية. وبشكل عام، إن البلد الذي دخل الفرد فيه دون الدولارين يعتبر في حالة فقر كبير، ومن كان دخل الفرد فيه على حدود الدولار الواحد يكون ملامساً عتبة الفقر المدقع.
اعتبر البنك الدولي أن الدول التي يقل معدل دخل الفرد السنوي فيها عن 600 دولار أميركي، دولاً فقيرة، ثم خفض هذه القيمة إلى 400 دولار أو ما يوازيها من العملات الأخرى العام 1992. وثمة دول أخرى، دخل الفرد فيها أقل بكثير من 300 دولار أميركي سنوياً، وهي بهذه الحالة تعتبر دولاً في حالة فقر مدقع. وعندما تمَّ إدخال عناصر أخرى إلى جانب موضوع الدخل، تتعلَّق برفاه الإنسان نتبيَّن أن دولاً عظمى متوسط دخل الفرد فيها مرتفع جداً، ومع هذا، يلامس الفقر فيها الملايين من أبنائها (الولايات المتحدة الأميركية).
لقد ارتفع عدد الدول الأقل نمواً (نادي الفقراء) من 25 دولة العام 1971 إلى 48 دولة العام 1999، وأصبح اليوم 86 دولة. والملفت أن حوالى 3 مليارات شخص في العالم يعيشون على أقل من دولارٍ واحد يومياً. إن عدد الفقراء في الدول العربية كان بين 90 و100 مليون نسمة العام 1992 أي بين 34 و38% من عدد السكان. ويظهر أنه كلما ارتفع سعر النفط كلما ازداد عدد الفقراء.
ويعود تصنيف خط الفقر إلى المعايير المتبعة في البلد نفسه. ففي أوروبا مثلاً إذا كان دخل الفرد أقل من 55% من دخل المواطنين المتوسطي الحال يعتبر مواطناً فقيراً. ولنأخذ نموذجاً عن الفقر في هولندا حيث يعتبر فقيراً من لم يتمكَّن من الحصول على المال الكافي لتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحاً مثل الطعام والملبس والمسكن بما في ذلك الماء والطاقة. فعلى سبيل المثال في نهاية العام 2005 أصدر المكتب الهولندي للتخطيط الثقافي والاجتماعي والمكتب المركزي الإحصائي إنذاراً مشتركاً بأن هناك ما نسبته أكثر من 10% من سكان هولندا كانوا مضطرين إلى العيش على “دخل منخفض”،
ولا تشمل السلع الكمالية مثل شراء المساكن الخاصة، والسفر لقضاء الإجازات والكحول والتبغ. ويعتبر تقرير جديد صادر عن منظمة الأمم المتحدة للأطفال (يونيسف)، بريطانيا أسوأ مكان في رفاهة الأطفال بين الدول المتقدمة لنشأة الأطفال. وذكرت سكاي نيوز الأربعاء في 15 أيلول/سبتمبر 2007 أن يونيسف قالت: إن أطفال بريطانيا هم الأكثر تعسًا وفقرًا، والأقل صحة، والأشد إهمالاً في الدول الإحدى والعشرين الأغنى في العالم،
لتأتي في ذيل قائمة من 40 مؤشراً مختلفاً لرفاهية الطفل. طبقاً لتقرير يونيسف الصادر تحت عنوان ” فقر الطفل في المنظور: نظرة عامة على حالة الطفل في الدول الغنية”، فإن بريطانيا تتخلَّف عن الدول الصناعية من حيث الفقر النسبي والحرمان وجودة علاقة الأطفال بالآباء ونظرائهم، وصحة الطفل وسلامته، والسلوك والتعرض للمخاطر، وإحساس الصغار أنفسهم بالخير. وعلى الرغم من المستوى العالي في جودة التعليم، فإن بريطانيا مازالت في قاع كل المعايير الأخرى، لتأتي بذلك في مؤخرة الدول الإحدى والعشرين.
وهذه هي أول دراسة تجريها يونيسف عن رفاه الطفل في العالم المتقدِّم، وهي تمثل ضربة قوية للحكومة البريطانية والتي جعلت من أهدافها الرئيسة تقليل فقر الطفل إلى النصف بحلول العام 2010.
من المنطلقات السالفة يمكن القول إنه لا يوجد مقياس واحد للفقر في الدول، ذلك أنه إذا أخذنا دولاراً واحداً كمعيار للفقر المدقع في الدول العربية، فإن نسبة الفقراء في الدول العربية لن تتجاوز 2.5 % أو 3.5%، ويبدو هذا الأمر غير مقنع، كما أنه يوجِّه رسالة مضلِّلة مفادها أن مكافحة الفقر ليست من أولويات التنمية في المنطقة العربية، إضافة إلى أن هذا المقياس “لا يصلح لتقييم وضع الفقر في معظم البلدان العربية ذات مستوى التنمية والدخل المرتفع أو المتوسط”
. ولو احتسبنا الفقر وفق معيار من لا يحصل على الدولارين في اليوم، فإن نسبة السكان الفقراء تصل إلى 31.5%.المهم الذي لا يقبل الشك، أن الفقر مرتبط ارتباطاً أساسياً بتوافر المال الضروري لتأمين الحاجات الإنسانية، لأن توافره يبعد عن الانسان العوز، والتشرُّد والارتهان لإرادة الآخرين. فإذا ما تأمَّن المال فإنه يساهم في تحرير الإنسان من ضغوطات الحياة، ويتمكَّن بالتالي من تملك القدرة على التحكم بمقدرات حياته.
ثانياً: حجم الفقر في دول عربية ودول غربية
قبل عرض حجم الفقر في دول عربية وغربية نجد من المفيد الإشارة إلى الفقر في أهم أقاليم العالم علماً أن بعض الأرقام قد يكون متضاربًا مع أرقام أخرى موجودة في الدراسة. بأن الفقر في منطقة جنوب آسيا يشكل نسبة 77.8% من مجمل السكان العام 2002، وتأتي أيضاً منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي حيث تمثِّل النسبة الكبرى الثانية، ومجمل عدد الفقراء في هاتين المنطقتين مليار و849 مليون نسمة .
كنا نتمنَّى لو وضعت أوروبا منفصلة عن آسيا الوسطى كي نتبيَّن فعلاً الحجم الحقيقي للفقراء فيها، أما وقد جمعت مع آسيا فقد ضاع المجال لمعرفة حقيقة الوضع في آسيا بأكملها لأن الفقر يظهر أن أغلبه يتمركز في آسيا،
ويظهر أنه لو أضفنا إلى المجموعتين السابقتين، الشرق الأوسط ووسط آسيا، لتبيَّن أن آسيا قد حوت لوحدها أكثر من ملياري فقير. على الرغم من أن أرقام الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية، وفي إحصاءات أخرى، أظهرت أن عدد الفقراء تجاوز 100 مليون فقير، علماً بأن الجدول يعطينا فكرة عن أن عدد الفقراء الذين يحصلون على أقل من دولارين يزيد على 2 مليار وستمائة ألف فقير.
لا شك أن مكافحة الفقر هي قضية ملحة، ذلك أنه بالإضافة إلى بعدها الأخلاقي والإنساني ، فإنها أحد السبل للانطلاق إلى حياة واعدة أكثر رخاء وأمنا، والخلاص منها هو أحد سبلنا لخلق مجتمع أكثر نماء وتقدم، وبالتالي فإن محاولة الخلاص منه تعتبر عملية جد موضوعية ، ويمكننا ذكر مختلف الطرق اللازمة لذلك فيما يلي:
– تصحيح الخلل الفظيع في توزيع الثروة الوطنية، وتحمل النخبة الثرية مسؤوليتها في تنمية مجتمعاتها بتشغيل رؤوس الاموال في بلدانها عوض توظيفها في الخارج
– خلق عمالة جيدة المردود.
– تحول المجتمع العربي والإسلامي من مجتمع مستهلك إلى مجتمع منتج.
– قيام الدولة بتنظيم ودعم الموارد البشرية والإعانات الاجتماعية على أحسن وجه.
– إصلاح كافة التشريعات والسياسات والإجراءات التي تساهم في التعاون الاقتصادي بين الوطن العربي والإسلامي، وتحقيق وحدة اقتصادية بين البلدان العربية والإسلامية
– لا يمكن لأي مشروع جدي بين الدول العربية والإسلامية مواجهة ظاهرة الفقر أن يكتب له النجاح، إذا لم يتم التطرق في المرحلة الأولى لكل قطر على حدى، ثم بعد ذلك يتم تبني أفكار موحدة من خلال استخلاص النتائج، حيث أن أسباب الفقر ليست متماثلة في كل قطر.
– محاولة القضاء على التبعية الاقتصادية من طرف الدول العربية والإسلامية، للدول المتقدمة(من خلال الهيئات المالية والنقدية الدولية)، وذلك باضطلاع الدول المنتجة للنفط والقادرة على تأسيس صندوق نقد عربي وإسلامي، يقوم بالمساعدة في توفير القروض للأقطار العربية الفقير، ضمن أرباح منخفضة وشروط يسيرة، شريطة أن لا تضيع تلك الأموال في عمليات النهب والفساد وأن تتجه بإشراف الدولة المانحة لعمليات تنموية حقيقية.
– تشجيع الصادرات الشيء الذي يساهم في زيادة حجم العمالة والعوائد النقدية.
– يجب أن تولي الحكومات اهتماما خاصا للقطاع غير المنظم وللزراعة، وتوفير التمويل اللازم لذلك.
– عدم تبني حلول لا تتماشى مع تقاليد البلدان العربية، والإسلامية.
– يجب أن تعمل الدول على تشجيع العمالة من خلال سن القوانين الخاصة بالحد الادنى للأجور وامتصاص كل قوة العمل المتوفرة، وبالتالي تطبيق برامج وسياسات عمالة فعالة.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان