مازال الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب قادرا، على أن يجعل العالم يحبس أنفاسه إنتظار لقرارات مصيرية، قد تغير وجه الأحداث، حتى قبل أن يترك مكتبه البيضاوي ولو بساعات قليلة، فترامب الذى أبهر العالم بتصرفاته وقراراته، التي تخرج عن حدود المنطق في كثير من الأحيان ، طوال أربعة أعوام حكم فيها أقوي دولة في العالم، مازال يضع أنظار المتابعين معلقة، صوب إشارة من يده، سواء في الداخل الأمريكي، أو فى أوروبا، أو في منطقة الشرق الأوسط.
أمريكيا .. لا يعلم أحد حتى الأن، ما حجم القنبلة التى يعتزم ترامب تفجيرها، قبل أن يتسلم الرئيس المنتخب جو بايدن مفاتيح البيت الأبيض، خاصة في ظل المناورات التي يقوم بها ترامب وأنصاره، في محاولة بائسة لمنع الإنتقال السلمي للسلطة، من خلال تصرفات لم تشهدها الساحة الأمريكية على مدي تاريخها، على الرغم من الضربات الموجعة والإشارات السلبية، التي يتلقاها ترامب تباعا ومفادها، أن المجتمع الأمريكي ودولته العميقة، قد ضاقا ذرعا، بتصرفات ترامب المشينة، التي بات يعتبرها الكثيرون، إختراقا سلبيا لكل قيم الحرية والديمقراطية، التى كرستها عقود من النضال عاشها الشعب الأمريكي منذ نهاية الحرب الأهلية 1861- 1865، التى إندلعت بعد أن أعلنت 7 ولايات جنوبية إنفصالها وتشكيل ولايات كونفدرالية، عندما إندلعت الحرب فى كارولينا الجنوبية ثم توسعت لتشمل باقي الولايات، وخلفت أربع سنوات من القتال العنيف، ما بين 620,000 إلى 750,000 من الجنود القتلى، والتي تعدّ أكبر من حصيلة قتلى صفوف الجيش الأمريكي خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما دمرت أجزاء كبيرة من البنى التحتية في الجنوب، وأرست قواعدها الثابتة تضحيات جسام قدمها سياسيون وقادة ورموز للمجتمع المدني الأمريكي حفروا أسماءهم بحروف من نور في سجلات تاريخ الحريات في العالم أجمع، وليس الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، الأمر الذي يجعل من المستحيل أن يفرط المجتمع الأمريكي في خيار الديمقراطية، وعلى رأسه الجمهوريون، الحريصون أكثر من أى وقت مضى، على تكريس مكانتهم في الهرم السياسي الأمريكي.
إن آخر تلك الرسائل العنيفة من الجمهوريين لترامب، كانت تلك الصفعة، التي وجهها الكونجرس يوم الجمعة الماضي بشكل غير مسبوق، عبر التصويت بغالبية كبيرة، لصالح إبطال “الفيتو”، الذي إستخدمه الرئيس الأمريكي ضد إقرار موازنة الدفاع، حينما أبطل رفاق ترامب الجمهوريون في مجلس الشيوخ حقه في النقض (الفيتو)، للمرة الأولى خلال ولايته، ليقروا مشروع قانون للإنفاق الدفاعي، رغم إعتراضاته القوية المتكررة، قبل 20 يوما من تركه المنصب الرئاسي.
ربما كانت تلك الجلسة التي إنعقدت في أول يوم من هذا العام نادرة وبكل المقاييس، فمجلس الشيوخ صوت بأغلبية81 صوتا مقابل 13صوت، ليحقق بذلك أغلبية الثلثين المطلوبة لإبطال “الفيتو الرئاسي” بدعم من الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، قبل يومين من أداء الكونجرس الجديد للقسم يوم الأحد، رغم أن المجلس لم يتمكن من إبطال حق النقض في ثماني مرات سابقة، حيث كان الجمهوريون، أصحاب الأغلبية في الكونجرس، مساندين لترامب بشكل كبير خلال سنوات حكمه الأربع، لكنه إنتقدهم في الأيام الماضية لعدم إبدائهم الدعم الكامل له فيما ردده بلا سند عن تزوير الإنتخابات، التي خسرها في نوفمبر الماضي، ورفضهم مطلبه بزيادة إعانات “كوفيد – 19” المادية وتحركهم لإبطال حق النقض، حيث صوت 335 نائبا لصالح المشروع مقابل 78 صوتا ضده، ما يشير إلى أن المجلس سيتمكن من تجاوز فيتو الرئيس ترامب في حال قرر إستخدامه، مكررا نفس موقف مجلس النواب ذي الغالبية الديموقراطية، الذي قام بالخطوة نفسها قبل ذلك بأيام.
إن الإبهار، الذي يستعذب ترامب ممارسته لا يتوقف عند حدود الولايات المتحدة الأمريكية، إنما يمضي بعيدا عن تلك الحدود، عابرا بحارا ومحيطات، ليصل إلى منطقتنا التي اكتوت بنيران الشطط الترامبي الجامح، فقد بدت الأيام الماضية حافلة بالحديث عن قرع طبول الحرب مع إيران، التي يمكن وصفها ب “الصديق اللدود”، في وقت يتحدث فيه كل طرف، عن نوايا الآخر، في شن هجمات عليه، وفي ظل حديث عن أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ربما لن يترك البيت الأبيض، إلا بعد أن يوجه ضربة عسكرية لطهران، يرى مراقبون أنها قد تحقق أهدافا كثيرة له ولإسرائيل على حد سواء ، فعلى المستوى الشخصي، يرى مراقبون أن توجيه ترامب ضربة لإيران، سيمكنه من رفع شعبيته، ضمن مساعيه للعودة إلى البيت الأبيض، عبر الإنتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، بعد أربع سنوات من الآن، وهي مساع يتحدث البعض عن أنها بدأت بالفعل، ثم وضع عراقيل في طريق الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، الساعي لعلاقة أكثر انفتاحا تجاه إيران، وللعودة إلى الإتفاق النووي معها، أما بالنسبة لإسرائيل، فإن كل خطوة لإضعاف إيران، التي تمثل العدو التقليدي “المعلن” لها في المنطقة، تصب في مصلحتها الإستراتيجية، في وقت تقترب إسرائيل كثيرا من الحدود الإيرانية، عبر تحالفات وإتفاقيات، مع عدة دول خليجية معادية لإيران، التي بات مشروعها الإمبراطوري في مهب رياح الرفض، من جانب قواعدها التي استقرت في عدد من مدننا العربية، بعد أن امتدت أذرعها لتحرق تلك البلدان وتعمل فيها تخريبا وتدميرا، وتحيل أيامها حرائق لا تنتهي.
إن حالة الغضب المشتعل ضد النفوذ الإيراني، لم تتوقف عند بلاد الرافدين، وما شهدته من ثورة ضد رموز وأعوان نظام الملالي، فقد أثار قرار رفع صور قائد فيلق القدس الإيراني السابق قاسم سليماني في قطاع غزة مؤخرا، غضب الجماهير هناك، الأمر الذي دفعهم إلى إنزالها قبل أن يدوسوا عليها بأقدامهم ويتطور الأمر إلى إحراقها، كما عمدت ميليشيات في العراق سابقا، إلى تعليق صور سليماني وابومهدي المهندس في الشوارع، قامت حركة حماس والفصائل المتحالفة معها، بنشر صورة كبيرة لسليماني في قطاع غزة وذلك في الذكرى الأولى لاغتياله بغارة جوية أمريكية عند خروجه من مطار بغداد، مما دفع الجماهير الغاضبة، في منطقة الإصلاح الزراعي بمحافظة نينوى، إلى إنزال الصور وحرقها، وتكرر الأمر في غزه، وأظهرت بعض المشاهد، قيام مجموعة من الشباب الغاضب بإنزال صورة سليماني والدوس عليها ثم تمزيقها، حيث يتهم الفلسطينيون الغاضبون سليماني والميليشيات التي أشرف عليها بالتورط في قتل الآلاف من الفلسطينيين والعراقيين والسوريين واليمنيين، كما شارك غاضبون في تمزيق صور سليماني، بسبب جرائمه بحق اللاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك، حيث عمدت الميليشيات التي أشرف عليها إلى دك المخيم الواقع في دمشق بالصواريخ وتهجير أهله بحجة دعم الحكومة السورية والجيش السوري.
ولا يمكن تفسير ما يجري ضد الرموز الإيرانية، إلا في إطار حالة النفور العام، التي أفرزتها سنوات من الممارسات اللاأخلاقية للنظام الإيراني، ودعمها للميليشيات القاتلة، في العراق ولبنان وغزه وسوريا واليمن، الأمر الذي كشفته تصريحات معلنة لقيادات تلك المناطق بالحصول على ملايين الدولارات من طهران، وكان آخرها ما أعلنه القيادي في حركة حماس محمود الزهار، الذي كشف في مقابلة مع قناة العالم الإيرانية، تفاصيل لم يسبق للحركة الإسلامية الفلسطينية أن تحدثت عنها، فيما يتعلق بالدعم المالي، الذي كانت تتلقاه من إيران، حيث قال الزهار، إنه تسلم 22 مليون دولار في العام 2006 من قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني، (الذي وصفه رئيس وزراء حكومة حماس أسماعيل هنيه بأنه شهيد)، موضحا أن الرئيس الإيراني حينها محمود أحمدي نجاد أحاله إلى سليماني لتسلم المبلغ المذكور، مضيفا أنه كان أول وآخر لقاء مع سليماني المكلف بعمليات الحرس الثوري في الخارج، والتي يصنفها الغرب ضمن العمليات القذرة، وتشمل تصفية المعارضين للنظام وتمويل وكلاء إيران في المنطقة وتدريبهم في معسكرات إيرانية، أو في ساحات خارجها (العراق وسوريا ولبنان واليمن)، وأوضح الزهار أنه حين تسلم مهامه كوزير للخارجية في حكومة حماس، التي سيطرت في العام 2007 على قطاع غزة وسط انقسامات وخلافات عميقة مع السلطة الوطنية، وهذه هي المرة الأولى التي تكشف فيها حماس بكل وضوح عن تلقيها تمويلات إيرانية، على الرغم من أن الحركات الفلسطينية تتحدث بإستمرار عن الدعم الإيراني المالي واللوجيستي، لكن من دون تقديم تفاصيل أو أرقام، لكن المصالح التي تربط حركة حماس بقادة إيران لا يمكن أن تنسي الفلسطينيين وأهالي غزة، ما قامت به الميليشيات الإيرانية، من تنكيل بحقهم في سوريا والعراق، وهو ما ترجمته شعوب تلك المناطق في صورة غضب عارم، ورفض تام للممارسات الإيرانية، الأمر الذي يؤشر إلى أن العام الجديد، ربما يحمل الكثير من المفاجآت غير السارة لحكام طهران، ويجعل من مهمة بايدن في تحسين التوجهات الأمريكية تجاه إيران أمرا صعبا، خاصة إذا ما فاجأه ترامب بضربة خاطفة ضد أهداف إيرانية محتمله.
إن العام الجديد، يبدو أنه يمسك قلما حادا، سوف يعيد رسم الكثير من السياسات والأحداث ومناطق النفوذ، خاصة في منطقتنا العربية، بما يحمل الكثير من البشائر، التي تحيى الأمل في أن نستعيد ماضيا عظيما، كنا فيه سادة الحلم، وترسم ثنابك خيولنا، حدود وخرائط العالم.