إن من يتابع جيدا المشهد الدراماتيكي الذى تجري وقائعه بالداخل الأمريكي، ويحلل جيدا، مقاصد الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن من تعيين بريت ماكجورك، العقل المدبر للدعم الأمريكي الذي تتلقاه قوات سوريا الديمقراطية الكردية” من التحالف الدولي في الحرب على داعش، يدرك أن مأزقا كبيرا ينتظر الأرعن أردوغان سوف يجبره على تغيير الكثير من التوجهات والتحالفات في سياسته الخارجية التى تتخذ من البلطجة والعدوان مبدأ أساسيا لها، فماكجورك الذى سبق أن أصدرت محكمة تركية مذكرة توقيف بحقه قبل سنوات بسبب إنتقاداته لسياسات أردوغان الخرقاء، ذلك الأمر الذى جعل أنقرة تطلب من الجيش التركي إعتقاله في سوريا أو في العراق إذا ما صادفوه هناك، كما أن ماكجورك الملقب بعدو أردوغان اللدود كان قد تقدم باستقالته إحتجاجا على قرار ترامب بسحب القوات الأمريكية من المناطق السورية عام ٢٠١٨ الأمر الذى مهد الطريق أمام قيام القوات التركية باحتلال تلك المناطق وارتكاب الكثير من المذابح وجرائم الحرب ضد الأكراد هناك، لتلك الأسباب وغيرها شعرت تركيا بالقلق، عندما عيّن الرئيس الأمريكي المنتخَب جو بايدن، بريت ماكجورك منسقًا لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي، وبريت ماكجورك الذي كان سابقًا في ظل إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، مبعوثًا خاصًا للتحالف الدولي ضد داعش، وكانت تربطه علاقات وثيقة مع قوات سوريا الديمقراطية، وهي العدو الأول لتركيا في سوريا، كذلك كان ماكجورك من أشد المعارضين لإنسحاب القوات الأمريكية من سوريا في ذلك الحين، والذي فتح المجال بعدها بعام أمام تركيا لشن عمليتها العسكرية المسماة “نبع السلام” في المنطقة التابعة للإدارة الذاتية للأكراد في سوريا، وأدت الى سيطرة القوات التركية والفصائل الموالية لها على مدينتي “رأس العين”، “وتل أبيض”، “بريفي الحسكة والرقة”، وتدور التساؤلات المعبرة عن القلق الشديد من جانب أردوغان، ماذا يحمل تعيين ماكجورك بالنسبة لتركيا ؟، خاصة وأن فوز جو بايدن بسباق الرئاسة إلى البيت الأبيض ومن قبلها التوتر مع الإتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وزيادة التوترات الإقليمية مع دول الجوار الجغرافى، أدى إلى قيام تركيا بالبحث عن بدائل إستراتيجية تتيح لها مساحات حركة ومرونة في مواجهة الضغوط المحتملة، التي تأتى كنوع من العقوبات على سلوك أنقرة المثير للجدل والتحديات، التي تفرضها على كل الأطراف، فالرجل بريت ماكجورك، الذي شغل منصب المبعوث الخاص لـ”التحالف الدولي” في عهد باراك أوباما أيضًا في 2015، إستقال من منصبه في ديسمبر 2018، إحتجاجًا على قرار دونالد ترامب بسحب القوّات الأميركية من سوريا .
ومما لا شك فيه، فإن تعين ماكجورك، منسقًا لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يحمل رسائل أمريكية قوية إلى أرعن تركيا، كما أنه يعد مؤشرًا إلى ما سوف تكون عليه سياسة بايدن بالمنطقة، إذ يبدو أنه سيتّخذ موقفًا صارمًا من أردوغان، فيما يعتزم قيادة سياسة بلاده تجاه إيران بالدبلوماسية، بدلًا من العقوبات والقوّة العسكرية، إضافة إلى أنه يدل على نية القيادة الأميركية في إعادة تحجيم الدور التركي المنفلت في سوريا وليبيا وعموم الشرق الأوسط، وخاصة لما عرف عن إتهام بريت ماكجورك لأردوغان، بتسهيل دخول آلاف الدواعش إلى العراق وسوريا، الأمر الذي حدا بالمسؤولين والسياسيين الأتراك إلى أن ينظروا إلى ماكجورك، “بنظرة سلبية”، تجاه تنفيذ سياساتهم في المنطقة وخصوصًا سوريا، ما سيعني أن تعيين ماكجورك هو “أولى المؤشرات على الخلافات التي ستنشأ بين الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة (الديمقراطي) جو بايدن، وتركيا.
إن الصفقات المتتالية مع روسيا في عدد من مناطق الصراع بالمنطقة، وزيادة التعاون مع الدول الأسيوية والأفريقية والصين، يمكن إعتباره إطارا لإستراتيجية التحرك الموازى والبديل بالنسبة لتركيا، ورئيسها الساعي لفرض دور تركي على الساحتين الإقليمية والدولية،
برغم أن التقارب بين الصين وتركيا، كان يبدو مستحيلًا لفترات طويلة، إلا أن الأمر بات مختلفا بالنسبة للدولتين الآن، أكثر من أي وقت مضى، في ضوء بروز العديد من المصالح التي تكرس للتعاون الوثيق، من بينها “طريق الحرير الجديد”، الذي يعتبر مشروعا استراتيجيا من وجهة النظر الصينية، فيما يعتبر خيارا استراتيجيا تركيا، بالنظر إلى إحتياجات تركيا الإستثمارية والتمويلية التي عززتها أزمة فيروس كورونا، كما أن هذا التقارب يبدو الأن أكثر أهمية، خاصة مع إستمرار تنامي عدم ثقة أردوغان في الغرب التوترات مع أوروبا وعدم إنسجام العلاقات مع الناتو .
إن المعطيات التي كانت ترجح فرضية إستحالة وجود توافق استرتيجي تركي مع الصين أو روسيا، وحتى وقت قريب، خاصة في ظل استعلاء القومية التركية والدعم الدائم والمعلن من تركيا، الخاص بالقضايا الإنفصالية في الدولتين “شينجيانغ في الصين”، “والشيشان في روسيا”، ثبت فشلها بعد نهاية مرحلة الحرب الباردة، ولم تعد قضية “الأخوة” باسم الأيديولوجية القومية، ذات وزن كبير، في مواجهة الحقائق الدبلوماسية والإقتصادية، الأمر الذي ربما يفسر، وجود تقارب بين تركيا والصين، وهو ما يمكن تأكيده على المدى الطويل .
إن تاريخ العلاقات بين تركيا والصين الحديثة بداية من عام 1971 وحتى التسعينيات من القرن الماضى، يؤشر إلى أن تلك العلاقات كانت محدودة نسبيًا، وتم تعزيزها لأول مرة من خلال التجارة بعد الحرب الباردة، حيث قدم الصينيون لتركيا سلاحًا دعمًا للمواجهة مع الأكراد، وبفضل بكين تمكن الأتراك من تطوير أسلحتهم الباليستية ومدفعيتهم، ومع ذلك لم يكن هناك المزيد من التعاون العسكري بين البلدين لسبب لا يمكن تجاهله، حيث عارضت الدول الغربية داخل الناتو مشروعًا تركيًا يخطط لبناء نظام دفاع مضاد للصواريخ مع شركة صينية، عندما عرض الأخير أفضل الأسعار، وأقصر المهل، وكان بمثابة تعاون تكنولوجي حقيقي، وقبلت تركيا الاقتراح الصيني في نوفمبر 2013، ولكنها أضطرت تحت ضغوط غربية إلى التخلي عنه في عام 2015، وحتى اليوم، فإن فكرة تخلي تركيا تمامًا عن حلفائها داخل الناتو لصالح الصين، أمر مازال يخضع لوجهة النظر الأمنية والعسكرية، التي قد تتغير في مواجهة الضغوط والعقوبات الغربية المحتملة، في حين كان هذا التعاون العسكري محدودًا، وسمحت التنمية الإقتصادية للصين في فترة ما بعد الحرب الباردة بإمكانية تعزيز العلاقات الثنائية بين بكين وأنقرة .
إن استقرار العملة الوطنية “الليرة التركية”، يمر عبر التعاون الوثيق مع دول مثل الصين، ففي عام 2020، فقدت الليرة 30٪ من قيمتها، فيما تبلغ نسبة البطالة حوالي 13.4٪ وفقًا للأرقام الرسمية المقدمة في يونيو ومن 23 – 25 ٪ وفقًا للأرقام غير الرسمية، التي تدعمها بعض التحليلات، وبالنسبة لتركيا، فإن الحاجة إلى شركاء اقتصاديين أقوياء أصبحت ملحة بشكل متزايد، حيث يضر التأثير الإقتصادي المستقبلي لأزمة Covid-19 بالإقتصاد التركي المتعثر بالفعل، وهذا يجعل العلاقة مع الصين التي اجتازت الأزمة الصحية جيدًا ولا تزال تشهد نموًا اقتصاديًا تحسد عليه أكثر جاذبية لأنقرة، وقد أظهرت بكين بالفعل قدرتها على دعم القوة التركية في مواجهة صعوباتها الإقتصادية، وعلى سبيل المثال، في عام 2018، قدم البنك الصناعي والتجاري الصيني المملوك للدولة ICBC قرضًا بقيمة 3.6 مليار دولار لتركيا لدعم مشاريع الطاقة والنقل بعد أن فقدت الليرة 40٪ من قيمتها، وأظهرت الصين رغبتها في دعم التنمية الإقتصادية التركية، دون أن يضطر أردوغان إلى الرضوخ للضغوط الغربية، وهذا ما يجعله شريكًا مهمًا للسلطة الحاكمة، أما الصين فهي تستفيد أيضًا من الإتجاه السياسي والفكري داخل حزب العدالة والتنمية التركي، وعلى نطاق أوسع بين النخب السياسية التركية حول الرئيس أردوغان، فيما يبدو أن النهج السائد في السنوات الأخيرة كان نهج “الأوروبيين الآسيويين”، إنهم يرون تركيا كدولة في “وضع دفاعي” سياسيًا واقتصاديًا، وتحتاج إلى إقامة روابط قوية، بما في ذلك الروابط الإقتصادية، مع الدول غير الغربية المزدهرة .
إن الأتراك في إطار بحثهم عن الإستثمارات والاتفاقيات التجارية التي يمكن أن تضمن استقلال بلادهم، فإن الصين ترسخ نفسها كشريك طبيعي،
ويعد “طريق الحرير الجديد” الصيني ( مبادرة الحزام والطريق ) عنصرًا أساسيًا آخر في التقارب بين بكين وأنقرة، حيث أوضح أردوغان خلال زيارته للصين في يوليو 2015، أن تركيا تنظر بإيجابية إلى أي إستثمار صيني، خاصة في البنية التحتية، وتحلم بقاعدة لوجستية وصناعية للشركات الصينية من بكين، ومن المتوقع أن تكون تركيا قلب “طريق الحرير” بين أوروبا والصين، وخاصة للشحن بالسكك الحديدية، وعلى سبيل المثال، منذ نوفمبر، أصبح من الممكن ولأول مرة أن يسافر قطار شحن بدون توقف من مدينة شيان في وسط الصين إلى أوروبا بفضل نفق مرمراي الذي شيده وموله الصينيون .
وما بين التقارب والمواءمة
يجب التأكيد على حقيقة في العلاقات الدولية، وهي أن التقارب لا يعني مواءمة، فالعلاقات الأمنية والإقتصادية القديمة بين الأتراك والغرب لن تختفي فجأة، وهناك بعض الإنزعاج بين أبرز الخبراء الصينيين بشأن ما يُنظر إليه على أنه توسع تركي في شرق البحر المتوسط، كما أن تورط أنقرة في ليبيا والتنافس بين الأتراك والسعوديين هما أيضًا مواقف تتعارض مع المصالح الصينية في الشرق الأوسط، وقبل كل شيء، يتطلب “طريق الحرير الجديد” الإستثمارات التي تنطوي عليه بعض الإستقرار الإقليمي، وبالتالي فإن السياسة الإقليمية التركية، خاصة إذا ظلت على الخط الذي يتم تقديمه على أنه “عثماني جديد”، يمكن أن تستمر في التأثير بشكل سلبي على المصالح الصينية في الشرق الأوسط .
إن التأثير المهم جدًا للأمريكيين في الخليج العربى، أو الحرب الباردة بين إيران والسعودية، أو عدم قدرة إسرائيل على إيجاد وسيلة، بشكل نهائي، لصنع السلام مع الفلسطينيين هو أيضا من الأمور التي تهم الصينيين في الشرق الأوسط، ومع ذلك، فإن هذا لا يمنع بكين من إقامة علاقات أقوى وأقوى مع جميع دول الشرق الأوسط، والعثمانية الجديدة التركية، التي يمكن أن يُنظر إليها على أنها مقاربة عاطفية للتاريخ والأمة، أكثر من كونها مشروعًا توسعيًا ملموسًا وفقا لرؤية الخبراء، لن تكون بالضرورة خطيرة على المصالح الصينية مثل رغبة إسرائيل، ودول الخليج، لتحجيم الخطر الإيرانى في السنوات القادمة، لذلك سيكون من الخطأ الإعتقاد بأن السياسة الخارجية لأردوغان يمكن أن تعرقل هذا التقارب الصيني التركي .
وعلى صعيد آخر فإن إندماج اليونان وقبرص في الإتحاد الأوروبي يعني الوقوف إلى جانب هذه الدول في نزاعات الجوار، الأمر الذي كان يتم النظر إليه دائمًا على أنه إحتمال رهيب وخوف من الجانب التركي، خاصة بين القوميين، فالاتحاد الأوروبي هو في الواقع “نادٍ مسيحي” لا يسعه إلا تركيا كعدو، فمراكز الفكر في أوروبا، من نواحٍ كثيرة، تنظر إلى التوترات بين أوروبا وتركيا، باعتبارها تتجاوز موضوع الساعة، فيما تنظر القوى السياسية والمفكرون داخل الإتحاد الأوروبي بشكل متزايد إلى تركيا باعتبارها روسيا متوسطية، لا يمكن لأحد أن يجادل معها، وفي تركيا نفسها هناك قوى سياسية أخرى، ومثقفون آخرون، على إستعداد للقيام بدور العدو هذا، بإسم أيديولوجيتهم القومية، لذا فمن الرهان الآمن أن العلاقات الأوروبية التركية لن تهدأ حقًا على المدى القصير، إذا لم ينقذ الأمريكيون علاقتهم مع الأتراك، فإن تركيا تخاطر بالابتعاد عن المعسكر الغربي، وإذا كان الأمر كذلك، فلن يكون أمامها خيار سوى تعزيز علاقتها مع الصين، كما أن روسيا شريك مفيد بالفعل، لكنها محدودة، إلا أن هناك من يرى أن الأمر بعيد عن تحالف بين الكرملين وأنقرة، والحقائق تقول أن “12 حربًا حرضت تركيا فيها ضد روسيا من القرن السابع عشر إلى القرن العشرين، وليس للدولتين نفس المصالح الوطنية في القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط “، ولذلك فإنه يمكننا أن نرى، أنه في سوريا، ينخرط البلدان في تسوية صعبة يمكن أن تنهار بسرعة، وفي ليبيا يعارض الأتراك والروس وجهًا لوجه، فالأول يدعم الحكومة في طرابلس، والآخر يدعم المشير خليفة حفتر، فالقوتان هما ببساطة متقاربتان جغرافيًا، ولهما مصالح مختلفة للغاية، بحيث لا يجتمعان على أساس دائم .
من ناحية أخرى، تتمتع الصين بالقدرة المالية والمسافة الجغرافية التي تجعلها، على الأرجح، حليفًا رئيسيًا لتركيا في بداية القرن الحادي والعشرين، في المقابل يرى الخبراء الصينيون أن التقارب الصيني التركي سيترسخ بمرور الوقت، وسيكون إنتصارًا دبلوماسيًا كبيرًا لبكين، لأنه سيكون بمثابة نجاح لبكين في تحويل خصم سياسي وأيديولوجي محتمل، إلى حليف دبلوماسي وشريك إقتصادي، ومثل أي إنتصار، فهو على الأقل ليس بسبب إستراتيجية الفائز، بقدر ما هو بسبب أخطاء اللاعبين الآخرين، وهم في هذه الحالة، الغرب، الذي يغامر بعلاقات تاريخية مع تركيا، بسبب الأخطاء القاتلة التي ارتكبها أردوغان ونظامه، وعلى رأسها دعم الإرهاب بلا حدود، واحتواء قيادات تنظيم الإخوان الإرهابي، ناهيك عن المغامرات غير المحسوبة، للإستيلاء على ثروات شرق المتوسط وتكريس الفوضى المدمرة في اليمن والصومال، تنفيذا لأجندة لا يقرها القانون الدولي وهي اقتناص الثروات والقفز على مقدرات شعوب تلك البلاد المنكوبة.